ثمّة حاجة اكثر من ايّ وقت للتفكير في كيفية وضع حدّ للتمدّد الحوثي في اليمن من جهة ووقف الاعتداءات التي تستهدف المملكة العربيّة السعودية انطلاقا من الأراضي اليمنيّة. الأكيد ان ذلك لا بد ان يترافق مع معالجة الكارثة الإنسانية التي بات اسمها اليمن وهي كارثة على كلّ المستويات بسبب انتشار الفقر والجوع والمرض.
هناك وضع يزداد تدهورا في اليمن. هذا الوضع ناجم عن عوامل عدّة. لعلّ ابرز هذه العوامل السياسة التي تتبعها الإدارة الأميركية الجديدة التي تعتقد انّ عليها اعتماد مقاربة مختلفة للوضع اليمني من منطلق انساني بحت. يوجد منطق لمثل هذه السياسة، مثلما انّ هناك جانبا فيها لا علاقة له بما يدور على ارض الواقع. لا جواب بعد عن سؤال في غاية البساطة. يتعلّق هذا السؤال بالسبب الذي يدعو إدارة جو بايدن الى إعادة الاعتبار للحوثيين الذين يسمّون نفسهم "انصار الله"؟ هل يكفي ان تكون الإدارة الحالية رافضة لكلّ سياسات الإدارة السابقة كي يصبح الحوثيون، على الرغم من كلّ ما يفعلونه في اليمن وفي محيطها المباشر، مجرّد تنظيم سياسي مسالم اشبه بجمعية خيرية؟
يكفي ما فعله الحوثيون باهل صنعاء، المدينة الجميلة والمسالمة الفاتحة ذراعيها لاستقبال كلّ يمني، وما لا يزالوا يفعلونه بهم كي يوسموا بالجماعة الإرهابية. اثبت الحوثيون انّهم جماعة تسعى الى القضاء على كل ما له علاقة باي تطور في المجال البشري والانساني. لا يمتلكون ايّ مشروع اقتصادي او ثقافي او سياسي من أي نوع باستثناء الترويج لثقافة الموت وترسيخ الانقسامات ذات الطابع المذهبي التي كان اليمن بعيدا عنها في الماضي.
يكفي الشعار الذي يرفعونه والذي يسمّونه "الصيحة" كي تكون هناك مقاطعة لهم على كلّ المستويات، يمنيا وخليجيا وعربيتا ودوليّا. يرفع الحوثيون شعار "الموت لاميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للاسلام". لنضع جانبا الموت لاميركا والموت لإسرائيل والنصر للاسلام. من حقّ كلّ شخص في هذا العالم ان يكون لديه موقف من اميركا وإسرائيل. ما ليس مفهوما كيف يمكن لعن ديانة بحدّ ذاتها مثل الديانة اليهودية، خصوصا ان هناك يمنيين من اليهود وكان عدد من هؤلاء يعيشون الى ما قبل فترة قصيرة في صعدة التي هي معقل الحوثيين وزعيمهم عبد الملك الحوثي.
قبل الحوثيين، لم يتجرّأ سوى النازيين على لعن اليهود. هل الادارة الأميركية مستعدّة في الوقت الحاضر، علما انّها إدارة ذات طابع كاثوليكي – يهودي، لإعادة الاعتبار للنازية وتاريخها وما ارتكبته في حقّ الإنسانية عموما وفي حق اليهود بوجه خاص؟
من يتفادى اتخاذ موقف واضح من تصرفات الحوثيين لا يستطيع تكوين مقاربة سياسية بناءة في اليمن، علما ان الحوثيين جزء من النسيج اليمني وان ظلما لحق بمناطقهم في الماضي، خصوصا في مرحلة ما بعد قيام الجمهورية اليمنية في العام 1962 ثم المصالحة اليمنية مطلع سبعينات القرن الماضي. بقيت مناطق الحوثيين، مثل صعدة خارج مشاريع التنمية بشكلها البدائي. لكنّ مثل هذا الظلم يجب الّا يتحول الى ظلم يمارسه الحوثيون الذي يسيطرون على صنعاء منذ الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014.
لم يكن ممكنا ممارسة الحوثيين لسياسة هجومية في كلّ الاتجاهات لولا انّ هناك "شرعيّة" يمكن الاتكال عليها في أيّ مجال من المجالات باستثناء مجال التواطؤ من تحت الطاولة واحيانا من فوقها بينها وبينهم. باختصار شديد، لا يمكن مواجهة الحوثيين والمشروع الإيراني الذين يعتبرون رأس حربته في اليمن من دون إعادة تشكيل ما يسمّى "الشرعية" التي على رأسها الرئيس المؤقت عبد ربّه منصور هادي القابع في المملكة العربيّة السعودية. بعض الصراحة ضروري بين حين وآخر. دفع اليمن غاليا ثمن حقد عبد ربّه منصور هادي على سلفه علي عبدالله الصالح الذي اصرّ الحوثيون على اغتياله بدم بارد في الرابع من كانون الاوّل – ديسمبر 2017.
من أسوأ ما فعله الرئيس المؤقت الذي تسلّم موقع رئاسة الجمهورية في شباط – فبراير 2012 تفكيكه الجيش اليمني والحرس الجمهوري تحديدا الذي كان على رأسه احمد علي عبدالله صالح، نجل الرئيس الراحل. حسنا، كان عبد ربّه يريد الانتقام من سلفه لاسباب ذات طابع شخصي وعقد نفسيّة ولكن ماذا عن جريمة تفتيت الجيش اليمني والحرس الجمهوري الذي كان قادرا على مواجهة الحوثيين، وهو ما فعله بكفاءة بخوضه ست حروب معهم بين 2004 و2010.
اخلى احمد علي عبدالله صالح الساحة اليمنية للرئيس المؤقت بعد 2012. على الرغم من ذلك، كان هناك إصرار على دفع مجلس الامن الى فرض عقوبات عليه. هذا ظلم ليس بعده ظلم اساء الى "الشرعية" قبل ان يسيء الى احمد علي عبدالله صالح او الى علي عبدالله صالح الذي يمكن ان تكون هناك مآخذ كثيرة، بل مآخذ لا تحصى، عليه.
لكنّ ما لا يمكن تجاهله ان الرجل لم يتوقف في ايّ وقت عن التحذير من الحوثيين وخطرهم ومن الاخوان والمسلمين الذين دفعوا في العام 2011 الى التخلّص منه مستغلّين "الربيع العربي".
يحتاج اليمن الى مقاربة جديدة لا تقوم فقط على السير في سياسة تتعارض كلّيا مع تلك التي اعتمدتها إدارة ترامب. لا يمكن مواجهة الحوثيين الذين بدأت الإدارة الأميركية تكتشف خطرهم يوما بعد يوم، من دون "شرعية" جديدة. مثل هذه "الشرعيّة" تفرض اوّل ما تفرض طرح ما اذا كان في الإمكان إعادة بناء الجيش اليمني استنادا الى ما بقي منه. هذا اوّلا. لا مفرّ ثانيا من التساؤل هل بقي شيء من التنظيم السياسي (المؤتمر الشعبي العام) الذي بناه علي عبدالله صالح والذي كان يغطي في مرحلة معيّنة كلّ اليمن. من الصعب الرهان على المؤتمر الشعبي الذي مات مع موت علي عبدالله صالح، لكنّ ليس ما يجب ان يحول دون التساؤل هل لا يزال هناك ما يمكن البناء عليه في اليمن؟
في النهاية، إنّ العناد لا يمكن ان يكون سياسة يمنية. الخروج من العناد يبني سياسة. هذا الخروج يعني الاعتراف بانّ لا امل في تسوية سياسية ما في اليمن من دون تطورّ ما، قد يكون عسكريا، يجعل الحوثيين يأخذون حجمهم الحقيقي من جهة ومن دون إعادة تشكيل "الشرعية" التي لم تستطع الى الآن سوى ان تكون فشلا متنقلا من جهة اخرى.