قبل أن تفكّر إسرائيل في شنّ حرب تستهدف منع «الجمهوريّة الإسلاميّة» من الحصول على السلاح النووي، عليها أن تتصالح مع نفسها أوّلاً. دخلت إسرائيل مرحلة التجاذبات التي تجعل منها على عتبة حرب أهلية. يحدث ذلك في وقت تمرّ فيه المنطقة كلّها في مخاض ليس معروفاً ما الذي يمكن أن ينتهي إليه.
استطاع بنيامين نتنياهو، من أجل تفادي المثول امام القضاء، أخذ إسرائيل إلى مكان سيكون صعباً الخروج منه قريباً. سيكون ذلك في غاية الصعوبة في غياب القدرة على لملمة أوضاعها الداخلية من جهة والخروج من سيطرة المستوطنين في الضفّة الغربيّة من جهة أخرى.
للمرّة الأولى منذ اعلان قيام دولة اسرائيل، في العام 1948، هناك تمرّد داخل المؤسسة العسكريّة.
عبّر عن هذا التمرد طيارون في الاحتياط اعلنوا رفضهم العودة إلى الخدمة في حال حصول تطور يستدعي ذلك. هؤلاء، مثل مئات آلاف الإسرائيليين الآخرين، يرفضون تغيير طبيعة الدولة عن طريق إخضاع السلطة القضائيّة للسلطتين التنفيذية والتشريعية.
من الواضح أنّ المجتمع الإسرائيلي صار منقسماً على نفسه. صار هذا الانقسام واقعاً تكرّس مع مرور السنوات.
بدأ التحول نحو اليمين في العام 1977 مع وصول مناحيم بيغن، زعيم تكتل ليكود اليميني، إلى موقع رئيس الوزراء.
لكنّ ذلك لم يمنع بيغن من تحقيق سلام مع مصر إثر الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس أنور السادات للقدس والقاء خطاب في الكنيست، دعا فيه إلى السلام.
لا يوجد في إسرائيل حالياً قادة تاريخيون يستطيعون، وإن بفعل ضغط أميركي مارسته وقتذاك إدارة جيمي كارتر، اتخاذ قرارات كبيرة كما كانت الحال مع بيغن الذي انتمى في شبابه إلى احدى العصابات الإرهابيّة التي قاتلت البريطانيين في فلسطين في مرحلة ما قبل اعلان الدولة.
يوجد في إسرائيل، حالياً، رئيس للوزراء تضم حكومته إرهابيين بالفعل مثل وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير الذي انتمى إلى حركة «كاخ» التي كان على رأسها الحاخام مئر كاهانا الذي دين بالإرهاب في الولايات المتحدة.
من اجل تفادي القضاء، أي إنقاذ نفسه، قرّر «بيبي» تغيير قوانين معمول بها تخصّ المحكمة العليا في إسرائيل وصلاحياتها.
معنى ذلك أنّه بات اسير وزراء في الحكومة مثل بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا قبل ايّام إلى «محو» بلدة حوارة الفلسطينيّة القريبة من نابلس...
خلاصة الأمر أنّ «بيبي» يعتبر مستقبله السياسي أهمّ من مستقبل إسرائيل، التي دخلت شئنا أم ابينا، أزمة داخلية لا سابق لها، هي أزمة مجتمع قبل أي شيء آخر. كيف يمكن التوفيق بين مستقبل إسرائيل من جهة ومستقبل «بيبي» من جهة أخرى؟
الأكيد أن هذه المعادلة تضع الإدارة الأميركيّة في حيرة من امرها، خصوصاً بعدما عجز وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن عن لقاء المسؤولين الإسرائيليين في تل ابيب أو القدس واكتفى بالاجتماع بهم قرب مطار اللد.
فرض عليه ذلك حجم التظاهرات المعترضة على المسّ باستقلالية القضاء، وهي تظاهرات جعلت السلطات الإسرائيلية عاجزة عن السيطرة الأمنيّة على الطرق المؤدّية إلى مطار تل ابيب.
يذكّر مشهد استقبال وزير الدفاع الأميركي قرب مطار تل ابيب، للبحث في التهديد الإيراني، باضطرار الرئيس اللبناني سليمان فرنجيّة (الجد) لاستقبال وزير الخارجيّة الأميركي هنري كيسنجر في المطار العسكري في رياق (منطقة سهل البقاع).
حصل ذلك في ضوء عجز السلطات اللبنانيّة في العام 1974 عن ضمان أمن كيسنجر وطائرته في حال هبوطها في بيروت.
عاجلاً أم آجلاً سيأتي وقت الأسئلة الكبيرة في إسرائيل. من بين هذه الأسئلة كيف يمكن مواجهة ايران وبرنامجها النووي في ظلّ هذا الانقسام العمودي في المجتمع الإسرائيلي، وهو انقسام لا علاج له في الوقت الراهن؟
مثل هذا الانقسام يعني العجز عن اتخاذ قرار واضح في شأن التعاطي مع الشعب الفلسطيني الذي لا يستطيع البقاء تحت الاحتلال إلى ما لا نهاية، ولا يستطيع خصوصاً العيش تحت رحمة المستوطنين في الضفّة الغربيّة.
ولّى زمن الرجال الكبار في إسرائيل. كان اسحق رابين آخر من يستطيع اتخاذ قرار واضح في شأن التسوية السلميّة. اغتاله متطرف إسرائيلي في خريف العام 1995 في تل ابيب.
هذا المتطرف اسمه ييغال عمير، وهو يحكم إسرائيل من سجنه.
كان ممكناً ان يكون اسم من اغتال رابين، بن غفير أو سموتريتش.
إنهما من فصيل عمير الذي درس في احد المعاهد الدينيّة اليهودية التي تخرّج إرهابيين وعنصريين.
تقدّمت إسرائيل كثيراً اقتصادياً، خصوصاً في مجال التكنولوجيا الحديثة.
لكنّ هوة ساحقة باتت تفصل بين الاقتصاد والسياسة في هذا البلد حيث لم يعد مكاناً للمنطق بمقدار ما هناك مكان لكلّ ما له علاقة بالخرافات الدينيّة والفكر المتحجر.
ما الفارق بين المستوطنين الإسرائيليين في الضفة و«داعش»؟ ما الفارق بين هؤلاء المستوطنين والحوثيين في اليمن؟ ما الفارق بين المستوطنين وحركة مثل «حماس» تحاول في الوقت الراهن الاستفادة إلى ابعد حدود من القمع والقتل اللذين تمارسهما حكومة «بيبي» في الضفّة؟
الثابت أنّ هناك مأزقاً إسرائيلياً. يرمز إلى هذا المأزق وجود شخص مثل نتنياهو على رأس الحكومة للمرّة السادسة.
لا يمتلك «بيبي» أي رؤية سياسية من أي نوع باستثناء تكريس الاحتلال وحماية نفسه من سيف العدالة.
الأهمّ من ذلك كلّه أن المأزق الإسرائيلي تحوّل إلى مأزق أميركي أيضاً. يعود ذلك إلى اضطرار إدارة جو بايدن إلى التعاطي مع حكومة «بيبي» التي لا تستطيع ان تكون في مستوى الأحداث التي تشهدها المنطقة، بل باتت تهديداً للسلم الاجتماعي داخل إسرائيل نفسها.
اكثر من ذلك، لم يعد سرّاً أن إسرائيل تحتاج إلى تنسيق مع اميركا في حال كانت تريد بالفعل التصدي للمشروع الإيراني في المنطقة.