ليس في الإمكان تصوّر سياسية أميركية في العالم في ظلّ الرغبة القائمة لدى الإدارة الحالية في تصفية الحسابات مع الإدارة التي سبقتها. لا فائدة من تركيز إدارة جو بايدن على همّ واحد هو الانتقام من إدارة دونالد ترامب. بكلام أوضح لا وجود لسياسة فعّالة عندما تكون مثل هذه السياسة مبنيّة على معادة كلّ ما قامت به الإدارة السابقة التي حاسبها الشعب الأميركي على كلّ ما ارتكبته من أخطاء يوم الانتخابات الرئاسية. كان ذلك في الثالث من تشرين الثاني – نوفمبر الماضي عندما قرّرت أكثرية الناخبين معاقبة دونالد ترامب على تصرفّاته في الداخل الأميركي.
اذا بقيت السياسة التي ستتبعها الإدارة الجديدة برئاسة جو بايدن أسيرة عقدة إدارة دونالد ترامب، لن يكون مستبعدا مراوحة الأمور مكانها في الداخل الأميركي وفي العالم. سيكون صعبا على الصعيد الخارجي، خصوصا، بناء سياسة متماسكة من دون الاعتراف بانّ الفريق المحيط بدونالد ترامب، على رأسه وزير الخارجية مايك بومبيو، لعب دورا في التخلّص من عقد كثيرة وكسر حلقات مقفلة كان الاعتقاد السائد ان لا شيء يمكن ان يسمح بتجاوزها.
صحيح انّ إدارة دونالد ترامب كانت سيئة فلسطينيا، لكنّ الصحيح أيضا انّ القيادة الفلسطينية جنت على نفسها عندما اعتقدت انّ مقاطعة اميركا جائزة وان لديها ما تؤثّر به على إدارة دونالد ترامب. في النهاية، كان هدف اسرائيل الدائم قطع العلاقة بين القيادة الفلسطينية من جهة وواشنطن من جهة أخرى. كان في الإمكان، على الرغم من كلّ ما قام به ترامب والمحيطين به، المحافظة على شعرة معاوية بين واشنطن ورام الله.
ما لا بدّ من الاعتراف به انّ هناك حلقات مقفلة لا مفرّ من كسرها في ظلّ المعطيات الجديدة التي ولدت من رحم التهديدات الإيرانية المباشرة لدول المنطقة، ان في الخليج وان في المشرق العربي. تباهت ايران ابتداء من أيلول – سبتمبر من العام 2014، بعدما وضع الحوثيون (انصار الله) يدهم على صنعاء، بانّها صارت تسيطر على اربع عواصم عربيّة. على صنعاء نفسها، وعلى بغداد ودمشق وبيروت. ذهب ناطقون باسم "الجمهورية الاسلاميّة" الى حد القول انّ ايران صارت قوّة عظمى نظرا الى انّها تتحكّم ايضا بمضيقين استراتيجيين هما هرمز وباب المندب. من حسن الحظّ انّه وجدت قوّة عربيّة تقتلعها من باب المندب في اليمن. فمن يسيطر على باب المندب وميناء المخا اليمني يستطيع التحكّم بالملاحة في البحر الأحمر، كما يستطيع اغلاق خطوط الملاحة المؤدّية الى قناة السويس.
لم تأت اتفاقات السلام التي وقعتها دولة الامارات العربيّة المتّحدة ومملكة البحرين مع إسرائيل من فراغ بعدما كانت سلطنة عُمان سبقتهما الى استقبال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو في مسقط ايّام السلطان قابوس. كذلك، لم يكن في استطاعة السودان الانتظار طويلا في حال كان مطلوبا منه العودة الى دائرة الدول التي تستطيع التعاطي مع العالم من دون عقد بعيدا عن العقوبات الدولية التي تسبب بها نظام عمر حسن البشير.
لعبت إدارة ترامب دورا نشطا في تسهيل كلّ ما من شأنه إيجاد وضع جديد في المنطقة بعدما تجاوزت ايران كلّ الخطوط الحمر في التعاطي مع دول المشرق العربي ودول الخليج، خصوصا بعد تحويل جزء من الشمال اليمني الى قاعدة صواريخ تابعة لها.
فوق ذلك كلّه، تصرّفت إدارة ترامب بطريقة حضارية في تعاطيها مع مشكلة مفتعلة اسمها الصحراء المغربيّة. اعترفت بالسيادة المغربية على ارض مغربيّة لا اكثر ولا اقلّ. ما ذنب الولايات المتحدة اذا كان هناك نظام جزائري لديه عقدة المغرب، نظام يظنّ انّ الهرب الى خارج حدوده يضمن له الاستمرارية نظرا الى عجزه عن التصالح مع شعبه اوّلا؟
هناك مشكلة مفتعلة عمرها منذ العام 1975، وهي مشكلة بين الجزائر والمغرب. وهناك حلّ عملي مطروح هو حل الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب في اطار اللامركزية الموسّعة. هل مطلوب بقاء المشكلة عالقة الى ما لا نهاية، كي يستمر النظام في الجزائر في قمع شعبه وحرمانه من ثرواته تحت غطاء انّه يتصرّف من اجل تمكين شعب ما من ممارسة حقّ تقرير المصير؟
لا يمكن تجاهل ان إدارة ترامب حققت إنجازات بكسرها حلقات مقفلة... كما ارتكبت أخطاء كلفتها هزيمة مدوّية امام جو بايدن. ليس صحيحا ان تمزيق الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني في العام 2018 كان امرا سيّئا. يفترض في رجال إدارة بايدن الاعتراف بانّ ما اقدّم عليه فريق ترامب، وليس ترامب نفسه، كان عملا جبّارا في مواجهة المشروع التوسّعي الإيراني في كلّ المنطقة، وهو مشروع يهدّد كلّ ما هو عربي فيها. يدلّ على ذلك ما فعله المشروع الإيراني في العراق وسوريا ولبنان حيث تكفّل بالقضاء على مؤسسات الدولة عبر ميليشيا مذهبيّة مسلّحة تابعة له.
مرّة أخرى، هناك حسنات لإدارة ترامب وهناك أخطاء جسيمة ارتكبتها. لم يكن ترامب نفسه وراء تلك الحسنات التي تحقّقت على الصعيد الخارجي خصوصا. الأكيد ان الرئيس الأميركي السابق لا يعرف شيئا عمّا يدور في الشرق الأوسط والخليج وشمال افريقيا. كان هناك فريق عمل لا يمكن الاستخفاف بمهاراته، كما لا يمكن الّا الشكوى في انحيازه لإسرائيل واليمين فيها، خصوصا في موضوعي الاستيطان والقدس. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه في نهاية المطاف هل يمكن بناء سياسة على فكرة الاعتراض على كلّ ما قامت به إدارة ترامب"؟ هل يمكن تسمية مثل هذه السياسة بالسياسة؟
لا يمكن لردّ الفعل ان يكون سياسة. لا شكّ ان دونالد ترامب كان شخصا انفعاليا في أحيان كثيرة وكان من الصعب التعاطي معه او العمل معه، لكنّ ما اقدمت عليه ادارته في مجالات معيّنة وفي مناطق معيّنة كان بمثابة خطوات جريئة تحتاج الى شخصية خارجة عن المألوف للقيام بها.
لا عيب في اخذ الصالح من تركة ادارة ترامب والاستغناء عن الجانب السيّء من هذه التركة.
في كلّ الأحوال، سيتوجب الانتظار بعض الوقت قبل معرفة هل ستبقى الإدارة الأميركيّة الجديدة في اسر الإدارة السابقة ام ستلجأ الى سياسة خلاقة من منطلق ان جو بايدن يعرف العالم اكثر بكثير مما كان يعرفه سلفه.