لم يكن كامل مروّه الذي اغتالته المخابرات المصرية بتعليمات مباشرة من جمال عبدالناصر رجلا عاديا بأي مقياس من المقاييس. تكفي مراجعة أعداد صحيفة “الحياة” منذ تأسيسها في العام 1946 إلى يوم اغتياله في السادس عشر من أيّار – مايو 1966 للتأكد من أمرين.
أولّهما مدى الحقد الذي يكنّه الحكام العرب الجهلة للبنان. أما الأمر الآخر فيتمثّل في مدى قدرة لبنان على المقاومة على الرغم من أن الاغتيالات السياسية استهدفت كبار رجالاته. في الواقع استهدفت الاغتيالات كلّ من سوّلت له نفسه خوض مغامرة وضع لبنان على خارطة العالم.
لم يكن الهدف اغتيال كامل مروّه فحسب، كان الهدف اغتيال لبنان أيضا. ففي العام 1966 أُعلن إفلاس “بنك انترا” في ظروف لا تزال غامضة إلى اليوم. وفي السنة ذاتها، تبيّن كم كان رئيس الجمهورية شارل حلو ضعيفا وحكيما في الوقت ذاته. كان ضعيفا في اتخاذ القرارات الكبيرة من نوع رفض الموافقة على اتفاق القاهرة المشؤوم الذي رعاه جمال عبدالناصر من أجل أن يدفع لبنان ثمن هزيمة العرب في العام 1967. لكنّه كان حكيما في قطع الطريق على مشاركة لبنان في حرب 1967، فحافظ على الأرض اللبنانية وحماها من الاحتلال في مرحلة معيّنة ولفترة محدّدة.
تكفي نظرة إلى الصفحات الأولى من أعداد “الحياة” التي ظهرت في معرض أقامتهُ العائلة في مناسبة مرور نصف قرن على رحيل كامل مروّه للتأكد من أن كامل مروّه الشيعي الجنوبي المتزوج من سلمى البيسار، ابنة العائلة السنّية الطرابلسية العريقة، كان لبنانيا صميما. تفوّق في لبنانيته، هو الذي بنى بيته في بيت مري، أي في قلب الجبل المسيحي، على كل الآخرين، من مسيحيين ومسلمين.
لكنّ كامل مروّه كان أيضا عربيا أصيلا يعرف، تماما، ما يدور في العالم ويرفض المزايدات وكلّ ما هو عشوائي. لذلك ذهب ضحية الحرب الباردة العربية – العربية. أراد قول كلمة حقّ في فضاء لم يعد يتّسع سوى للغوغاء والغوغائيين الذين أخذوا العرب من كارثة إلى أخرى. كان هؤلاء أعداء كامل مروّه. لذلك لم يجدوا خيارا آخر غير قتله بواسطة لبنانيين صغار معروفين أكثر من اللزوم، كانوا عملاء لدى جهاز المخابرات المصرية في حينه. كانت مصر في مرحلة معيّنة نظام الوصاية على لبنان، كما صارت عليه الحال تماما عندما تولّى النظام السوري ابتداء من العام 1976 هذه المهمّة التي توجّها باغتيال رفيق الحريري في 2005 مع ما يعنيه ذلك من تسليم لراية الوصاية إلى إيران.
في المعرض الذي أقامه أبناء كامل مروّه في مناسبة مرور خمسين عاما على اغتياله، هناك مجموعة صور تعرّف بالرجل وأهمّيته بصفة كونه صحافيا من مستوى مختلف ومن طينة أخرى في مرحلة كان فيها لبنان يلعب دورا رائدا على كلّ صعيد. كان مطار بيروت في العام 1956 المطار السابع في العالم، وكانت كلّ الشخصيات العالمية ترغب في زيارة لبنان، بمن في ذلك ونستون تشرشل. كان الملك حسين يشارك في سباق للسيارات في لبنان ويفوز فيه ويتسلّم الكأس من الرئيس كميل شمعون… وكانت مسابقة ملكة جمال أوروبا تجري في “كازينو لبنان”!
صفحات الحياة كانت الشاهد على رؤية مروه الثاقبة
هناك نص لكريم كامل مروّه الذي شارك مع أخيه مالك في إقامة المعرض الذي يستمرّ شهرا كاملا في وسط بيروت، يشرح للمرّة الأولى ببساطة متناهية، هي بساطة المنطق السليم، الظروف التي حملت جمال عبدالناصر على التخلّص من كامل مروّه.
بعد قراءة النص، لا تعود حاجة إلى تفسيرات أو تعليقات. كلّ ما فيه واضح. كلّ ما فيه يكشف كم أن العرب كانوا، وربّما لا يزالون، أعداء أنفسهم قبل أيّ شيء آخر. ورد في القسم الأخير من النصّ، الذي اعتبره من وجهة نظري المتواضعة نصّا استثنائيا، الآتي:
“(…) غير أن الاستئثار الأميركي بالشرق الأوسط (بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) لم يدم طويلا. فبعد الإخفاق البريطاني في حرب السويس في العام 1956، دخل الاتحاد السوفياتي بقوة إلى المسرح، وبهذا الدخول وصلت رياح الحرب الباردة إلى المنطقة. لم يكن كامل مروّه يؤمن بقدرة المعسكر الشيوعي على هزيمة المعسكر الغربي، واعتبر أن إصرار البعض على ربط آمال العرب بهذا المعسكر (المعسكر الشيوعي) كان مغامرة لا تختلف كثيرا عن مغامرة اللجوء إلى ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية. كان كلاهما (يُعتبر) وقوفا مع الطرف الأضعف دوليا، فيما تكمن مصالح العرب مع الطرف الأقوى. وجادل بأنّ وصول العرب إلى تحقيق مصالحهم لا يكون بالاستفزاز العشوائي والمجاني للقوى العالمية، بل بتكاتفهم لبناء قدراتهم العسكرية والإستراتيجية أوّلا، وتوطيد صداقاتهم الإسلامية ثانيا، ثم مقارعة أو مقايضة الغرب عندما تحين الفرص للوصول إلى غاياتهم، لا سيّما موضوع فلسطين. وكان يفسّر موقفه بأنّه ليس انبهارا بالغرب أو استخفافا بالشرق، بل إدراكا لميزان القوى في عالم لا تسوده سوى المصالح ولا تنفع فيه العواطف.
تنبّه كامل مروّه باكرا إلى لعبة الأمم في الشرق الأوسط. وكانت لتجربته في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية تأثير كبير على مقاربته للصراعات الدولية. كان يتنفّس الإستراتيجيا حسب ما كان يقول عنه بعض الذين عرفوه. انعكس هذا التفكير الإستراتيجي على التغطية الإخبارية في “الحياة” منذ انطلاقتها في العام 1946.
تسارعت التحوّلات في العالم بعد الحرب. وبرزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوتين عظميين كسفتا شمس الامبراطورية البريطانية وجعلتاها تتنازل عن مستعمراتها. ومع انحسار النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، تلاشت منظومة الانتدابات وحلت محلها مجموعة من الدول العربية المستقلة يتوسطها كيان جديد وغريب هو إسرائيل. وواكب هذا التغيير تحول جذري في الوظيفة الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، من ممر للتجارة البريطانية والأوروبية مع القارة الهندية إلى خزان عالمي للطاقة الجديدة، وهي النفط.
كان كامل مروه لبنانيا صميما. تفوق في لبنانيته، على كل الآخرين، من مسيحيين ومسلمين
في الواقع، كانت اليد الخفيّة للولايات المتحدة وراء الخطوات التي أدّت إلى تفكيك الوجود البريطاني في المنطقة وتقليص سطوته على امتيازات التنقيب وعن أنابيب النقل. استخدم الأميركيون الانقلابات العسكرية طريقا لتحقيق أهدافهم، لا سيما في سوريا في العام 1949 وإيران في العام 1953.
مع حلول العام 1965، دخل العالم العربي الحرب الباردة الخاصة به. لم يكن أحد يتوقّع شدّة صقيعها. كان قطبا هذه الحرب الرئيس جمال عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز.
أما السبب الرئيسي لهذه الأزمة، فكان انهيار الوحدة السورية – المصرية وتحوّل أنظار الرئيس المصري إلى اليمن، حيث قام ضباط يمنيون محسوبون عليه بقلب الحكم الملكي الإمامي هناك، فدخلت البلاد حربا أهلية. وسارع عبدالناصر، عندئذ، إلى مساندة حلفائه الإنقلابيين، مرسلا آلاف الجنود لمؤازرتهم، الأمر الذي اعتبرته الرياض تهديدا مباشرا لأمنها. لم ينفع عقد قمتين عربيتين استثنائيتين في الإسكندرية والدار البيضاء في رأب الصدع بين الطرفين.
تزامن كلّ ذلك مع سباق إقليمي ودولي حثيث لوراثة بريطانيا في الخليج، مركز الثقل الإستراتيجي في الشرق الأوسط، في وقت كانت بريطانيا تتهيّأ للانسحاب منه. أخذ كلّ جانب يبني قواه على ذلك الأساس ويخطط للوصول إلى أهدافه بشتى الوسائل. وقرر الملك فيصل عندئذ أن يجول على عدد من الدول العربية والإسلامية في أفريقيا وآسيا لبناء جبهة تضامن إسلامية تعزز سياسته الخارجية لعلّه يعوّض بذلك، إستراتيجيا، ما كان يفتقر إليه من قوّة عسكرية.
اغتيال كامل مروّه هدفه اغتيال لبنان
وفي خطوة شديدة الدهاء وغير عادية بالميزان السعودي، اختار الملك السعودي أن يكون باب إيران، الجارة الإسلامية الكبرى، الواقعة على الضفّة الأخرى من الخليج أوّل باب يطرقه. فسافر إلى طهران في نهاية 1965، في أوّل زيارة رسمية له بعد تبوئه الحكم وتوصّل إلى تفاهمات مع الجانب الإيراني تتعلّق باستقرار الخليج لقيت احتضانا دوليا في ما بعد. سارت الأحداث في سياقها التاريخي المعروف، واستطاعت الرياض في النهاية حسم مسألة الخليج لمصلحتها وإنهاء الوجود المصري في اليمن بنجاح تاريخي استثنائي.
وقف كامل مروّه إلى جانب الملك فيصل في هذا الصراع، وتبين لاحقا أنّه كان من مهندسي تقاربه مع إيران ومن مشجّعيه على بناء جبهته مع الدول الإسلامية. وقفت شخصيات عربية أخرى إلى جانب الرئيس المصري ولعبت أدوارها في مساندته. مع تصلّب المواقف المتقابلة وتفاقم التباعد بين الطرفين، بات صعبا على الجميع احتواء خصوماتهم السياسية كما كان يجري في السنين السابقة أو الحد من انعكاساتها العنيفة على الشارع العربي.
في هذا الجو المشحون، توقفت سيارة صغيرة أمام مبنى “الحياة” في وسط بيروت ليل الاثنين في 16 أيار – مايو 1966 ونزل منها رجل يحمل رسالة إلى رئيس التحرير. توجّه مباشرة إلى ردهة الاستقبال في الطابق الأوّل حيث سهّل له موظّف الاستقبال الدخول إلى غرفة صاحب “الحياة”.
وقف الرجل أمام كامل مروّه الذي كان جالسا وراء مكتبه يتلقى مكالمة هاتفية وسلّمه الرسالة، ولمّا بدأ الأخير قراءتها عالجه بطلقتين من مسدّس مزود بكاتم للصوت أصابتاه في الصدر.
لم يكن مقتل كامل مروّه في نهاية المطاف سوى فصل من فصول المأساة اللبنانية المستمرّة إلى يومنا. لا يزال ممنوعا أن يكون مسلم لبناني لبنانيا بالفعل وعربيا صادقا يمتلك، بالفعل أيضا، حدّا أدنى من الوعي والمعرفة بالعالم وموازين القوى فيه!