من روسيا إلى لبنان، إذا كان من درس يمكن استخلاصه من تمرّد مجموعة «فاغنر» الروسيّة، فإنّ هذا الدرس يتمثل في أنّ لا مكان في أي دولة، صغيرة كانت أو كبيرة، سوى لجيش هذه الدولة.
المهمّ أن يكون هذا الجيش في إمرة القيادة السياسية الشرعيّة المنتخبة ديموقراطياً. هذا يعني بشكل أكيد ألّا يكون هذا الجيش في خدمة فرد معيّن أو عائلة هذا الفرد وطائفته، بل في خدمة البلد ومؤسساته.
المهمّ ألّا يكون هذا الجيش في خدمة أقلّية حاكمة، كما الحال في سورية مثلاً، حيث لا دولة... أو في خدمة مشروع سياسي ذي بعد مذهبي كما الحال في إيران، حيث حلّ «الحرس الثوري» شيئاً فشيئاً مكان الجيش النظامي!
لم يكن ظهور «فاغنر» بقيادة يفغيني بريغوجين في العام 2014 سوى تعبير عن الفشل الروسي على كلّ المستويات منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر العام 1991 وبداية صعود نجم فلاديمير بوتين الذي صار الحاكم بأمره لبلد شاسع في أزمة دائمة مع نفسه.
كان انهيار الاتحاد السوفياتي فرصة كي تلتقط روسيا أنفاسها وتنصرف إلى معالجة أزمتها التي يعبّر عنها أفضل تعبير تقدّم السكان في العمر وتناقص عددهم مع مرور السنوات.
لم يسأل بوتين نفسه يوماً لماذا لا يوجد أي شيء روسي في أي منزل روسي؟ لا غسالة ملابس روسية، لا برّاد روسياً، لا سيارة روسيّة... لا مكيف هواء روسياً. هذا على سبيل المثال وليس الحصر. بدل الانفتاح على العالم، أغلق بوتين روسيا على نفسها. فوق ذلك كلّه، حصر السلطة والثروة بيديه.
يدفع بوتين ثمن سنوات طويلة من التجارب الفاشلة على كلّ صعيد وفي كلّ مجال. ابتعد عن أوروبا بدل أن يحاول جعل روسيا جزءاً لا يتجزّأ منها.
يعود تصرّف الرئيس الروسي إلى اعتقاده أن امتلاك السلاح النووي يضمن لبلده موقعاً مميزاً في هذا العالم.
لم تكن الاستعانة بمجموعة «فاغنر»، التي انشأها شخص يمكن وصفه بأنّه زعيم عصابة، سوى تتويج لفشل بوتين في إقامة دولة قابلة للحياة.
يسهل على من يتكّل في سياسته الخارجية على «فاغنر» الدخول في حرب مثل الحرب الأوكرانيّة من دون تقدير للنتائج التي ستترتب على تهديد أوروبا التي باتت كلّ دولة فيها تعتبر نفسها في خطر وجودي.
يسهل على من يتّكل على «فاغنر» الاستخفاف برد الفعل الأميركي على غزو أوكرانيا...
بقيت «فاغنر» أم انتهت. لم يعد ذلك السؤال. السؤال إلى أين سيأخذ بوتين روسيا في ضوء كلّ الخيارات المخيفة التي سار فيها في السنوات العشرين الماضية؟
دلت خياراته على قصر نظر في كلّ الميادين. الأخطر من ذلك كلّه رفضه لأن يتعلّم شيئاً من تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي.
في النهاية، ليس غريباً لمن يسمح لنفسه بالمشاركة في الحرب على الشعب السوري في دخول لعبة «فاغنر» القائمة على الاستعانة بمرتزقة في حروب تدور في مختلف أنحاء العالم.
حروب تدور في دول أفريقية مثل مالي ووسط أفريقيا... وتصل إلى أوكرانيا مروراً بسورية حيث استعادت مجموعة بريغوجين، في العام 2017، حقول غاز ونفط للنظام السوري في مقابل الحصول على نسبة من الأرباح!
كان تمرّد «فاغنر» تتويجاً للفشل الروسي، وهو فشل ليس بعده فشل.
تكشف الحرب الأوكرانيّة أبعاد هذا الفشل الذي ستكون له انعكاساته على طبيعة العلاقة الصينيّة – الروسيّة. تستعد الصين منذ اليوم لمرحلة ما بعد سقوط بوتين والاستفادة إلى أبعد حدود من الثروات الطبيعيّة لروسيا.
ليس سرّاً أن بكين التي لديها، تاريخيّاً، مشاكلها الكبيرة مع موسكو تستفيد، منذ الآن، من العزلة الدوليّة التي يعاني منها بوتين. جعلته العزلة يوفر حسومات كبيرة على أسعار النفط والغاز من روسيا إلى الصين. عرفت الصين كيف تلعب أوراقها في الحرب الأوكرانيّة وصارت في طرف الرابحين، حتّى قبل انتهاء هذه الحرب المرشحة لأن تطول سنة أخرى في تقديرات الخبراء الغربيين.
تستطيع الصين الانتظار طويلاً قبل جني ثمار خطوة بوتين المتمثلة في شنّ حرب على أوكرانيا.
عندما تولّى بوتين الرئاسة في العام 2000، كان بين خيار الانتماء إلى العالم المتحضر وبين السعي وراء مهمّة مستحيلة تحت عنوان استعادة امجاد الاتحاد السوفياتي.
منذ العام 2000، لا يزال الرئيس الروسي يركض خلف سراب. يعود ذلك إلى سبب في غاية البساطة هو أن هذه الأمجاد التي يبحث عنها غير موجودة.
أوصله خيار البحث عن سراب إلى السقوط في الحضن الإيراني. لم يعد قادراً على متابعة حربه على أوكرانيا لولا المسيّرات التي يحصل عليها من «الجمهوريّة الإسلاميّة».
يسهل على باحث عن سراب الاستعانة بـ«فاغنر»، مثلما يسهل عليه إقامة حلف مع ايران التي هبت لإنقاذ النظام السوري عبر ميليشياتها.
ثمة خدمات متبادلة بين «الجمهوريّة الإسلاميّة» من جهة وبوتين من جهة أخرى. يتبيّن كلّ يوم أنّ الرئيس الروسي لا يجد عيباً في دعم ميليشيات مذهبيّة تابعة لـ «الحرس الثوري»، أكان ذلك في سورية أو لبنان أو العراق أو اليمن.
ليست مجموعة «فاغنر» سوى ميليشيا أخرى في عالمنا هذا. لا تبني الميليشيات دولاً. تستطيع تهديم دول.
يظلّ أفضل مثل على ذلك ما فعله «حزب الله»، الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، بلبنان... وماذا فعلته ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق وما تفعله ميليشيا الحوثي (جماعة أنصار الله) في اليمن.
ثمة تناقض كامل بين الميليشيا والدولة. مؤسف أنّ شخصاً مثل بوتين اختار الميليشيا بدل الدولة. يدفع حالياً ثمن ذلك.
أخذ روسيا إلى متاهات يصعب أن تخرج منها قريباً. يمكن، حتّى، التساؤل هل يمكن لروسيا الخروج من تلك المتاهات بدل الدخول في مرحلة التفتت الداخلي، على غرار ما يحدث في هذه الدولة العربيّة أو تلك بسبب الميليشيات... أي في لبنان وسورية والعراق واليمن وليبيا والسودان!