دخلت الحرب الأوكرانيّة مرحلة حاسمة في ضوء بدء الهجوم الأوكراني المضاد، وهو هجوم يستهدف إخراج القوات الروسيّة من الأراضي المحتلّة.
غيّرت الحرب، التي شنّها فلاديمير بوتين على البلد الجار، العالم. ستغيّر هذه الحرب روسيا أيضاً.
يكفي للتأكّد من ذلك ارتماء روسيا في الحضن الإيراني كي تتمكّن من متابعة الحرب... والموقف الصيني الساعي إلى الاستفادة إلى أبعد حدود من الضعف الروسي!
لا يمكن لهذه الحرب أن تنتهي من دون تغيير كبير في روسيا نفسها التي تُعاني من مشاكل داخليّة كبيرة، بما في ذلك ضعف الاقتصاد والفساد وتناقص عدد السكان.
ستتغيّر روسيا لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى أنّ بوتين لا يستطيع الانتصار في الحرب الأوكرانيّة. لا لشيء سوى لأن كلّ دولة في أوروبا، المدعومة أميركياً، تعتبر أن وقف روسيا عند الحدود الأوكرانيّة مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها.
يبدو السؤال، في مناسبة إعلان الرئيس فولوديمير زيلينسكي عن بدء الهجوم الأوكراني المضاد، الذي بدأ يُعطي ثماره، إلى أين ستنسحب روسيا؟ هل تبقى في شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها في العام 2018؟ الأهمّ من ذلك كلّه، ماذا سيكون تأثير الهزيمة الروسية على بوتين نفسه وعلى مستقبل الاتحاد الروسي ودوره؟
تبدو أوهام بوتين شبيهة إلى حدّ كبير بأوهام رجب طيّب أردوغان الذي بات عليه، على الرغم من إعادة انتخابه رئيساً لتركيا لخمس سنوات أخرى، إعادة النظر في كلّ سياساته.
نجد أردوغان يتخلّى خصوصاً عن سياسة دعم الإخوان المسلمين وفكرهم المتخلّف.
كذلك، يتخلّى الرئيس التركي عملياً، وليس بمجرد الكلام، عن حلم استعادة امجاد الدولة العثمانيّة في مناسبة مرور مئة عام على توقيع تركيا لمعاهدة لوزان.
فرضت تلك المعاهدة قيوداً محددة على الجمهوريّة التي قامت على أنقاض الدولة العثمانية. فرضت تلك المعاهدة قيودا لقرن كامل على تركيا في ضوء هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى.
في المقابل، سيكون على بوتين الذي توهّم أنّ في استطاعته استعادة امجاد الاتحاد السوفياتي إعادة النظر في كلّ ما قام به منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، بحجج واهية، في 24 فبراير 2022.
لعلّ أوّل ما عليه إدراكه أن الحرب الأوكرانيّة جعلت روسيا في حضن «الجمهوريّة الإسلاميّة».
على أرض الواقع، يحتاج بوتين إلى مسيّرات وصواريخ وذخائر إيرانيّة لمتابعة حربه على الشعب الأوكراني.
اعتقد الرئيس الروسي، قبل اتخاذ القرار بالهجوم على أوكرانيا، أنّ الأمر يتعلق بنزهة أخرى يقوم بها الجيش الروسي، على غرار النزهة التي قام بها في سورية ابتداء من خريف العام 2015.
قام الجيش الروسي بنزهته السوريّة من دون حسيب أو رقيب على قتل آلاف المواطنين السوريين ومهاجمة قرى وبلدات ومدن سوريّة وتدمير منازل ومستشفيات ومدارس.
حدث ذلك كلّه في وقت اختارت اميركا التفرّج على الوحشية الروسيّة في سورية... فيما اختارت أوروبا دور الشاهد على المأساة السوريّة وعلى استعانة ايران ببوتين من أجل بقاء بشّار الأسد في دمشق.
المفارقة أنّ الأسد نفسه بات يقف شامتا بالرئيس الروسي في ضوء غرقه في الوحول الأوكرانيّة!
لا شكّ أن إخراج القوات الروسيّة من الأراضي الأوكرانية المحتلة لن يكون سهلا. سيدفع الأوكرانيون ثمناً باهظاً قبل تحقيق انتصار واضح على الرئيس الروسي.
يؤكّد ذلك أن بوتين لا يتردّد في الإقدام على أي خطوة من أجل عرقلة الهجوم الأوكراني المضاد.
كان آخر دليل على ذلك تفجير سدّ نوفا خاكوفكا من أجل عرقلة تقدّم القوات الأوكرانية. لم يؤد تفجير السدّ إلى مأساة انسانيّة فحسب، بل أدى أيضا إلى إغراق منطقة تبلغ مساحتها أقلّ بقليل من 600 كيلومتر مربّع بالمياه. كلّ ذلك، من أجل عرقلة تقدّم القوات الأوكرانيّة.
سيظلّ الدرس الأهمّ، الذي لم يتعلّمه بوتين من انهيار الاتحاد السوفياتي، العجز عن استيعاب أنّ القوة العسكرية، بما في ذلك الدبابات والصواريخ والقنابل النووية، لم تحافظ على القوة العظمى الثانية في العالم.
انهارت القوة العظمى الثانية لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب إلى أن الاتحاد السوفياتي فشل اقتصادياً. لم يكن يمتلك اقتصاداً منتجاً. كان مجرّد نمر من ورق.
بقيت روسيا، في نظر العالم، نمراً إلى أن قرّر بوتين خوض مغامرته الأوكرانيّة. كشفت تلك المغامرة، بين ما كشفته، تخلّف السلاح الروسي. كشفت أيضا أنّ الشعب الروسي ليس متحمّساً لحرب أوكرانيّة تستمرّ طويلاً.
لدى المجتمع الروسي ما يكفي من المشاكل كي يرفض حرباً من هذا النوع. كشفت أخيراً أن روسيا ليست سوى مجرّد نمر من ورق، تماما كما كانت عليه حال الاتحاد السوفياتي.
يحاول أردوغان في الوقت الحاضر التصالح مع الواقع ومع محيطه ومع العالم.
الدليل على ذلك تعيين حفيظة غاية اركان، خريجة النظام المصرفي الأميركي والمؤسسات المالية الأميركيّة، حاكماً للمصرف المركزي التركي.
يستعين أردوغان حاليا باختصاصيين حقيقيين، صنع اميركا، من أجل إصلاح ما يُمكن إصلاحه في الاقتصاد التركي وتمكينه من العودة إلى الوقوف على رجليه.
على الرغم من الفارق بين وضع تركيا ووضع روسيا، نظراً إلى أن تركيا لا تخوض حرباً خارج أراضيها، يظلّ مشروعاً التساؤل هل يمتلك فلاديمير بوتين شجاعة رجب طيّب أردوغان؟
الجواب أن ذلك ما يفتقده الرئيس الروسي الذي يبدو مُصرّاً على البقاء خارج كلّ ما هو حضاري في هذا العالم، بما في ذلك العلاقة الطبيعية مع الدول الأوروبيّة.
يعتقد بوتين أن المغامرات العسكريّة، من نوع حرب أوكرانيا، يُمكن أن تبقيه في السلطة وأن تُعيد أمجاد الاتحاد السوفياتي. سيكون صعباً عليه التخلي عن أوهامه التي ستتسبّب، أقلّه في المدى المنظور، بمزيد من الخسائر البشريّة والدمار لروسيا وأوكرانيا.