حزب الله يرفض تصديق أن لا أحد يأخذ شعاراته على محمل الجدّ في بلد أظهر شعبه من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه أنّه متعلّق بثقافة الحياة وليس بثقافة الموت التي ينادي بها.
أكثر من طبيعي أن يهبّ “حزب الله” إلى إنقاذ عهده. ليس خطاب حسن نصرالله الأخير سوى دفاع عن هذا العهد، تخلّلته اتهامات إلى اللبنانيين المشاركين في الثورة الشعبية بخدمة جهات أجنبية. وليس اندساس عناصر من الحزب بين المتظاهرين في وسط بيروت والاعتداء عليهم سوى دليل على وجود خطة تستهدف إجهاض الثورة الشعبية، التي يشهدها لبنان والتي أدّت إلى تغيير في التوازن السياسي القائم.
كان أفضل تعبير عن هذا التوازن القائم، الذي تبدّل جذريا، تمكّن “حزب الله” من تعطيل دور مجلس النوّاب سنتين ونصف سنة من أجل فرض مرشّحه لرئاسة الجمهورية. نسي الحزب أنّ رقعة الثورة اتسعت وأنّها ليست محصورة بوسط بيروت الذي لديه حقد ليس بعده حقد عليه، نظرا إلى أنّه يرمز إلى مكان للتلاقي بين اللبنانيين من كلّ المناطق والمذاهب والطوائف والطبقات الاجتماعية وإلى كلّ ما هو حضاري في لبنان.
هناك واقع تغيّر في لبنان. لا يستطيع “حزب الله” القبول بتغيير الواقع الذي عمل جاهدا من أجل فرضه وتكريسه ليس عبر “العهد القويّ” فحسب، بل عبر انتخابات نيابية بموجب قانون عجيب غريب أيضا فرضه على اللبنانيين ثم عبر حكومة لديه فيها ثلاثة وزراء، فضلا بالطبع عن الوزراء الثلاثة الآخرين المنتمين إلى حركة “أمل”. هناك حصر للتمثيل الشيعي في “حزب الله” و”أمل” في حين هناك خرق لكلّ الطوائف الأخرى حيث التعددية تبدو مطلوبة، من وجهة نظر الحزب التابع لإيران طبعا.
سيكون السؤال في المرحلة المقبلة، خصوصا في ظلّ انكشاف وجود معارضة شيعية حقيقية لكلّ ما يمثّله “حزب الله”، هل سيتمكن اللبنانيون من ترجمة التغيير في التوازن السياسي القائم على صعيد تشكيل حكومة جديدة مختلفة كلّيا عن الحكومة الحالية؟ هل يستطيع “حزب الله” منع التغيير بالقوّة على غرار ما حصل في إيران في العام 2009، وما حصل ويحصل في العراق هذه الأيّام؟
الأكيد أن حسن نصرالله الذي يعتبر “العهد القويّ” عهده لا يمكن أن يقبل بذلك، خصوصا أن أحد الشعارات القليلة التي لديها معان عميقة هو شعار “كلّن يعني كلّن”. أي لا استثناء للأمين العام لـ”حزب الله” ولا تحييد له لدى الشكوى مما يعاني منه لبنان من مصائب وكوارث وفساد، بكلّ ما في كلمة فساد من معنى، بسبب سلوك الطبقة السياسية.
ليس سرّا أن الحزب الذي أراد، ولا يزال يريد، المتاجرة بلبنان واللبنانيين وأهل الجنوب خصوصا، يتحمّل جزءا كبيرا من مسؤولية وصول الوضع اللبناني إلى الهاوية. ففي بلد مثل لبنان، ليس طبيعيا الإتيان بأسوأ اللبنانيين من عديمي الاختصاص إلى مواقع وزارية مهمّة. لا يمكن بالطبع التعميم. لكنّ معظم الوزراء في الحكومة الحالية، المطلوب استقالتها، لا يمتلكون مؤهلات تسمح لهم بأن يكونوا في مواقعهم. هذا ما سمح به “حزب الله” وفرضه على اللبنانيين بقوّة سلاحه غير الشرعي في ما يمكن وصفه بتتمّة لفرض رئيس جمهورية معيّن على اللبنانيين في حال كان مطلوبا تفادي الفراغ الرئاسي. ذهب نصرالله في العام 2016 في لعبة الابتزاز إلى النهاية. إمّا أن يكون مرشحه رئيسا للجمهورية… وإما لا رئيس للجمهورية في لبنان!
يمكن النظر إلى ما يدور في لبنان من زاويتين مختلفتين. الأولى أن لا أمل بتغيير كبير في ضوء قدرة “حزب الله” على الدفاع عن المكاسب التي حقّقها والتي جعلت جبران باسيل وزير الخارجية ورئيس “التيّار الوطني الحر” يطالب من القاهرة بعودة سوريا إلى “الحضن العربي”. تجاهل باسيل أن النظام السوري مسؤول عن قتل ما يزيد على نصف مليون من مواطنيه وعن تشريد ما يزيد على ستة ملايين سوري، بين الداخل والخارج، في أقلّ تقدير.
أكثر من ذلك، أصرّ يوم الثالث عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر، ذكرى دخول الجيش السوري قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة، على الإعلان عن زيارة له لدمشق قريبا. كان يعتذر من قاتل الجنود والضباط اللبنانيين يوم الثالث عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1990. كان في الواقع يؤكّد أن “حزب الله” هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في لبنان وأنّه ضابط إيقاع السياستين الداخلية والخارجية للبلد.
أمّا الزاوية الأخرى التي يمكن النظر من خلالها إلى ما يدور في لبنان، فهي زاوية مختلفة جدّا مرتبطة أساسا بقدرة “حزب الله” على الدفاع عن عهده. سيكون صعبا عليه تنفيذ هذه المهمّة على الرغم من كلّ ما يمتلكه من سلاح ورجال. هذا عائد أساسا إلى عوامل عدّة من بينها التململ الشيعي على كلّ المستويات من جهة وبداية وعي لخطورة ما يشكلّه الحزب على مستقبل كل شيعي لبناني من جهة أخرى. بكلام أوضح، صار كلّ شيعي لبناني تحت المجهر عربيا ودوليا بسبب “حزب الله”، ولا احد آخر غير “حزب الله”. كذلك، يشعر الشيعي اللبناني بأنّه غير مرحّب به في أيّ دولة عربية، إضافة إلى صعوبة حصوله على تأشيرة تسمح له بالسفر إلى أيّ بلد كان.
تسبب “حزب الله”، بصفة كونه أداة إيرانية، بمصائب لحقت بالشيعة أوّلا وبكلّ لبناني طبعا. بكلام أوضح، تحوّل “حزب الله” إلى عبء على كلّ لبناني وذلك بحجّة أنّه “مقاومة”. تبيّن مع مرور الوقت أن “المقاومة” تعني شيئا واحدا هو نشر البؤس في لبنان وإلحاقه بإيران. هذا كلّ ما في الأمر في ظلّ إصرار على عزل لبنان عن محيطه العربي، والإصرار على الدفاع عن إيران ومشروعها.
ليس مستبعدا أن تشهد الأيّام القليلة المقبلة المزيد من الاعتداءات على المتظاهرين تنفّذها عناصر من “حزب الله”. لكنّ هذه الاعتداءات التي لا هدف لها سوى تأكيد التوازن السياسي القائم منذ العام 2016 تصطدم بما تشهده الأرض اللبنانية حيث انتفاضة شيعية واضحة على “حزب الله” بكلّ ما يمثله.
ليس ما شهدته النبطية وكفرمّان وصور وبعلبك وغيرها من المدن والبلدات حدثا عابرا. ما شهدته مناطق شيعية وسنّية ودرزية ومسيحية يمثّل تحوّلا عميقا في الوعي اللبناني يصعب على “حزب الله” التقاطه، بل التقطه ولا يدري أخذ العلم بحصوله نظرا إلى أن ذلك يؤكد فشله على كلّ صعيد. إنّه حزب يعيش في عالم خاص به. يرفض تصديق أن لا أحد يأخذ شعاراته على محمل الجدّ في بلد أظهر شعبه من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه أنّه متعلّق بثقافة الحياة وليس بثقافة الموت التي ينادي بها… وليس مجرّد ورقة تستخدم في إطار المشروع التوسّعي الإيراني الذي لا همّ له سوى نشر البؤس والتخلّف حيثما حلّت ميليشياته!