بقلم : خيرالله خيرالله
ليس هناك ما يمنع السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة من اعتماد لغة المنطق بدل السعي الى ادخال نفسها في لعبة لا طائل منها، سترتدّ عليها وعلى القضيّة التي تقول انّها تدافع عنها، عاجلا ام آجلا.كان الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، قبل ان يخلف ياسر عرفات في كلّ مناصبه، شخصا عاقلا. سارع منذ البداية الى رفض "عسكرة" الانتفاضة في العام 2000 محذّرا من ان هذه "العسكرة" ستعود بالويلات على الفلسطينيين. هذا ما حدث بالفعل. كان "أبو مازن" على حقّ وقتذاك. كان "أبو مازن" رجلا منطقيّا يفرّق بين الواقع والخيال. ما الذي دهى به في السنوات الماضية، خصوصا بعدما اصبح رئيسا للسلطة الوطنيّة اثر وفاة "أبو عمّار" في شهر تشرين الثاني – نوفمبر من العام 2004؟ يقول الذين يعرفونه عن كثب ان وصول "أبو مازن" الى موقع الرئاسة اسقط كل الأقنعة التي كان يتخفى خلفها عندما كان يلعب دور المعارض لـ"أبو عمّار"!
ليس ما يدعو الى تعداد الأخطاء التي ارتكبها رئيس السلطة الوطنيّة، في مقدمها استبعاد أي شخص يمتلك حدّا من الكفاءة عن أيّ موقع في السلطة. استغنى عن ذوي الكفاءة بالأزلام. لم يتحمّل الدكتور سلام فيّاض في موقع رئيس الوزراء نظرا الى انّ الرجل يتمتع بما يكفي من الاحترام للذات كي يقول في وجهه كلمة لا عندما يجب انت تقال مثل هذه الكلمة.
من آخر مهازل "أبو مازن" الذي اصطحب في الماضي افراد عائلته الى مسقط رأسه في صفد، القريبة من تل ابيب، ليقول لهم أنّه جاء بهم الى المكان "الذي لن يعودوا اليه"، دخوله في لعبة يمارسها النظام الجزائري. ليس سرّا ان "أبو مازن" ذهب الى صفد في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993، وهو الاتفاق الذي يعود اليه الفضل في التوصل اليه وفي اقناع "أبو عمّار" به. كيف يمكن لرجل يتمتع بحدّ ادنى من المنطق والواقعية زجّ نفسه بما لا يعنيه، أي في التصعيد الجزائري تجاه المغرب، في وقت لا طموح لديه سوى الدخول في مفاوضات مع إسرائيل؟
ليس مبلغ المئة مليون دولار، الذي حصل عليه رئيس السلطة الوطنيّة، كافيا لتبرير زيارة للجزائر. لن يقدّم هذا المبلغ ولن يؤخّر. كلّ ما يشكله رشوة جزائرية تستهدف الإساءة الى المغرب في سياق لعبة عفا عنها الزمن. مثل هذه اللعبة لن تفيد الجزائر ولا يمكن ان تفيد السلطة الوطنيّة التي قرّر رئيسها الإساءة لنفسه وللقضيّة الفلسطينية في الوقت ذاته.
في نهاية المطاف، يعرف المواطن الجزائري أنّ كلّ التصعيد الذي يمارسه النظام في تعاطيه مع المغرب يستهدف الهرب من ازماته الداخليّة التي تتعمّق يوما بعد يوم. بين بلد، مثل المغرب، يتطلّع الى المستقبل، وبلد اسير عقده وازماته الداخليّة، اختار "أبو مازن" العيش في الماضي وفي اسر الشعارات البالية التي كان يدعو الى التخلّص منها. ليس معروفا اين مصلحة الفلسطينيين في زج نفسهم في قضيّة لا علاقة لهم بها أصلا. هذه القضيّة قضيّة نظام جزائري مفلس تسيطر عليه مجموعة من الضباط لا همّ لديه سوى البقاء في السلطة. اكثر من ذلك، اختار هذا النظام عبدالمجيد تبون رئيسا للجمهوريّة كي يغطي العودة الى ممارساته السابقة التي اخذت الجزائر من فشل الى فشل آخر على كلّ صعيد، اقتصاديا وسياسيا وزراعيا واجتماعيّا وحضاريّا. مارس النظام الجزائري كلّ أنواع الفشل. فعل ذلك في ظلّ شعارات فارغة من نوع المناداة بحق تقرير المصير للشعوب. لا يدرك النظام ان الطفل، أي طفل، يعرف انّه لو كان بالفعل يريد حقّ تقرير المصير للشعوب، لكان سمح للشعب الجزائري، قبل غيره، بممارسة هذا الحقّ... بدل ابقائه منذ العام 1965 تحت حكم عسكري تتحكّم به مجموعة من الضباط في السلطة.
تكمن مشكلة "أبو مازن" في انّه لا يعرف الجزائر ولا يعرف المغرب. انضمّ بكل بساطة الى المتاجرين بالقضيّة الفلسطينية الذين راحوا يهاجمون المغرب بعد الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس الشهر الماضي للرباط. نسي مقدار الفرح والامتنان اللذين ظهرا عليه عندما وافق غانتس قبل ذلك على زيارته في رام الله...
عاد "أبو مازن" الى الأرض الفلسطينية بإذن إسرائيلي، تماما مثلما خرج منها. يعرف رئيس السلطة الوطنيّة أنّ المهمّة الوحيدة لهذه السلطة في الوقت الراهن حماية إسرائيل والمحافظة على امنها. قد تكون تلك الفائدة الوحيدة من مبلغ المئة مليون دولار الآتي من الجزائر والذي يعتبر الجزائريون انّهم حرموا منه.
من المفيد لـ"أبو مازن" ان يجد من يعطيه دروسا تساعده في معرفة المغرب عن كثب وما طبيعة النظام في المغرب ومدى شرعيته. يضاف، الى ذلك في طبيعة الحال، التقدّم الذي تحقّق في المملكة التي تفكّر بمنطق القرن الواحد والعشرين والتي لم تتردّد يوما في دعم القضيّة الفلسطينيّة بكلّ ما لديها من إمكانات. لا يحتاج المغرب إلى من يعطيه دروسا في الدفاع عن فلسطين. دماء الجنود المغاربة دليل حيّ على ان المغرب لم يلجأ الى الشعارات، بل الى الأفعال عندما شارك في حرب 1973 على جبهة الجولان.
امّا بالنسبة الى الجزائر، حيث ليس عبدالمجيد تبون اكثر من واجه للعسكر، فقد آن أوان الاعتراف بانّ العالم تغيّر وان المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة لا تفيد في شيء. كذلك لن يفيد في شيء التصعيد مع المغرب. ذهبت المئة مليون دولار هباء. لو كان لدى النظام الجزائري حرص فعلي على القضيّة الفلسطينية، لكان اوّل ما فعله السعي الى إعادة حركة "حماس" الى رشدها عبر اقناعها بانّ المصالحة الفلسطينية ضروريّة وأنّ هذه المصالحة خطوة لا بدّ منها في حال كان مطلوبا إعادة الحياة الى المشروع الوطني الفلسطيني.
لكنّ الواضح ان الجزائر في عالم آخر لا علاقة له بفلسطين من قريب او بعيد بمقدار ما له علاقة بالتصعيد مع المغرب. يصعّد النظام الجزائري مع المغرب لسبب واحد. يعود هذا السبب إلى عجزه عن التصالح مع الشعب الجزائري. هل يستطيع شخص مثل "أبو مازن" فهم هذه المعادلة؟ يمهّد فهمه مثل هذه المعادلة لمصالحة بينه وبين المنطق والواقع.