احتدمت المعارك في مأرب وحولها. تبدو معركة مأرب طويلة. واضح ان الحوثيين (جماعة انصار الله) يستميتون، بناء على أوامر ايرانيّة، من اجل الاستيلاء على المدينة. واضح اكثر انّهم بدأوا يواجهون مقاومة حقيقية في ظلّ تكثيف للطلعات الجوية للتحالف العربي.
ثمّة عوامل عدة تلعب، في هذه المرحلة، دورا يتعارض مع التوجهات الحوثيّة. هناك قوات جاءت من الجنوب لدعم المدافعين عن مأرب. هناك أيضا مصلحة للاخوان المسلمين، ممثلين بحزب التجمع اليمني للاصلاح، في منع سقوط المدينة مع ما يعنيه ذلك من سقوط نهائي لـ"الشرعيّة" التي هي أصلا في وضع يرثى له. الاخوان جزء أساسي من هذه "الشرعيّة" التي وضعت نفسها منذ فترة طويلة في خدمة الحوثيين، خصوصا في مرحلة ما قبل سقوط صنعاء في 21 أيلول – سبتمبر 2014. وقتذاك حاول الرئيس المؤقت عبد ربّه منصور هادي التذاكي معتقدا انّ "انصار الله" جمعيّة خيريّة. ذهب الى حدّ توقيع "اتفاق السلم والشراكة" معهم غداة وضع يدهم على صنعاء. امّن لهم غطاء الأمم المتحدة التي كانت ممثلة في تلك اللحظة اليمنيّة التاريخية بمبعوث الأمين العام جمال بنعمر.
من بين العوامل الأخرى التي يمكن أن تساعد في صمود مأرب وجود مصلحة لقبائل المنطقة، مثل عبيدة ومراد، في الدفاع عنها. يعرف ابناء هذه القبائل جيدا التنكيل الذي ينتظرهم في حال استيلاء الحوثيين على مأرب، وهو تنكيل من منطلق مذهبي لم يعرف اليمن مثله يوما.
ما يمكن ان يساعد في تخفيف الضغط على مأرب ايضا، بداية تغيّر في الموقف الأميركي. وراء ذلك الاستفزازات الحوثية من نوع دخول مقر السفارة الاميركيّة في صنعاء واحتجاز اليمنيين العاملين فيها. يتبيّن يوميّا ان الحوثيين تلامذة نجباء للايرانيين الذين استخفوا دائما بالولايات المتّحدة وذلك منذ احتجازهم الديبلوماسيين الاميركيين في طهران رهائن لمدة 444 يوما منذ تشرين الثاني – نوفمبر 1979!
يعتقد الحوثيون أنّ في استطاعتهم اللعب مع الادارة الاميركيّة الحالية من دون أي محاسبة. تجاهلوا، ربّما، أن المسؤول عن الملفّ النووي تيموثي ليندركينغ يمتلك معرفة باليمن وما على المحكّ فيها. ليس ليندركينغ صقرا، لكنّه يعرف، في ما يبدو، أنّ حمل الحوثيين على التفاوض، بطريقة معقولة نسبيّا، يحتاج الى تغيير في موازين القوى على الأرض وليس الى مزيد من المسايرة والرضوخ لمطالبهم.
الاهمّ من ذلك كلّه انّه يتبيّن، انطلاقا مما يدور على ارض اليمن، أنّ "الجمهوريّة الاسلاميّة" تلعب اوراقها في المنطقة بطريقة ذكيّة محاولة الاستفادة من وجود إدارة اميركيّة لا هدف لديها غير العودة الى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الموقع في تموز – يوليو 2015. يؤكّد ذلك ما يصدر بين حين وآخر عن روب مالي المسؤول عن الملفّ الإيراني في إدارة جو بايدن. ينتمي مالي الى مدرسة سياسيّة تعتبر ايران الدولة الاهمّ في المنطقة وانّ المطلوب استرضاءها دائما. تمثل هذه المدرسة كلّ العقد الاميركيّة التي مكنت ايران من متابعة مشروعها التوسّعي في المنطقة. لم يكن لإيران الاستمرار في هذا المشروع، الذي دمّر العراق وسوريا ولبنان واليمن، لولا وقوف الإدارات الأميركية موقف المتفرّج منذ أيام جيمي كارتر.
في معظم المحطات الاساسيّة التي مرّت فيها العلاقات بين ايران ما بعد 1979 والإدارات الأميركية، رضخت اميركا لـ"الجمهوريّة الاسلاميّة" مع استثناءات قليلة من بينها اغتيال قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" مطلع العام 2020.
بدأ ذلك بطريقة تصرّف إدارة جيمي كارتر لدى احتجاز الديبلوماسيين الاميركيين في طهران. لم تكن إدارة رونالد ريغان افضل. انسحبت من لبنان بمجرّد تفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في 23 تشرين الاوّل – أكتوبر 1983. بدأت وقتذاك رحلة تحوّل لبنان الى بلد تحت الانتداب الإيراني. كانت تلك رحلة طويلة مرّت باغتيال رفيق الحريري في شباط – فبراير من العام 2005 وصولا الى تحكّم ايران برئاسة الجمهوريّة في لبنان ابتداء من العام 2016.
الأكيد ان المحطّة الاهمّ كانت تسليم إدارة جورج بوش الابن العراق الى ايران في العام 2003. وفّرت تلك الإدارة الظروف المناسبة كي تكون هناك انطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي الإيراني الذي نشهد اليوم في اليمن فصلا آخر من فصوله الكثيرة.
باختصار شديد، تريد ايران العودة الى المفاوضات المرتبطة بملفّها النووي في فيينا حاملة أوراقا قويّة تمكنها من فرض شروطها. من هذا المنطلق، تبدو عملية اقتحام مقر السفارة الاميركيّة في صنعاء بمثابة جسّ نبض لادارة بايدن التي يبدو انّ عليها اثبات انّها إدارة ديموقراطيّة مختلفة عن إدارة جيمي كارتر... او إدارة باراك أوباما.
في كلّ يوم يمرّ يتبيّن كم مأرب مهمّة بالنسبة الى مستقبل اليمن ومستقبل شبه الجزيرة العربيّة التي وجدت ايران موطئ قدم فيها. لا يتعلّق الامر بوجود وعي أميركي لخطورة سيطرة ايران على جزء من اليمن وتحويله الى قاعدة صواريخ واطلاق لطائرات مسيّرة تهدّد دول المنطقة كلها، خصوصا المملكة العربيّة السعوديّة، فقط. يتعلّق الامر ايضا بما اذا كانت إدارة جو بايدن مهتمّة أيضا بالمحافظة على الامن والاستقرار في المنطقة. يشمل ذلك من دون شكّ حرّية الملاحة في البحر الأحمر حيث يسيطر الإيرانيون على ميناء الحديدة.
لا بدّ في نهاية المطاف من العودة مجدّدا، وللمرّة المئة، الى السؤال الأساسي. هل الاستسلام لإيران خيار أميركي ام لا؟
المخيف انّه على الرغم من التغيير الذي طرأ على الموقف من اليمن، ليس ما يشير الى إدارة بايدن مستعدّة لاتخاذ موقف حازم من اقتحام السفارة في صنعاء واحتجاز الموظفين اليمنيين فيها. سيكون الموقف الأميركي من تصرّف الحوثيين في العاصمة اليمنية امتحانا لادارة بايدن وللرئيس الأميركي نفسه الذي لم يظهر الى اليوم أي صفة قياديّة. تدلّ على ذلك طريقة الانسحاب من أفغانستان وتدلّ على ذلك اكثر طريقة التعامل مع الموضوع اليمني عموما وموضوع السفارة في صنعاء على وجه التحديد.