هل قيس سعيّد من النوع الذي سيتعلّم سريعا معنى ممارسة السلطة ومعنى التحديات التي يواجهها وطبيعة هذه التحديات؟ أم سيستسلم سريعا أمام "النهضة" ويقبل التعايش معها، أو الإقامة تحت جناحها فيما الوضع التونسي سيزداد سوءا.
ليس ما حصل في تونس حدثا عابرا. جاء انتخاب الأستاذ الجامعي قيس سعيّد رئيسا للجمهورية ليؤكد أنّ هناك وعيا سياسيا على الصعيد الوطني. يبدأ هذا الوعي برفض الطبقة التقليدية الحاكمة وأحزابها بكل ما تمثّله. لذلك، وقع خيار التونسيين على رجل جديد بكلّ معنى الكلمة مع كلّ ما يمكن أن ينطوي عليه ذلك من مخاوف في ظلّ تحوّل الحركة الإسلامية المسمّاة “النهضة” إلى صانع الرؤساء من جهة، ورغبتها في أن تعيد مع سعيّد تجربة المنصف المرزوقي الذي كان مجرد واجهة لها من جهة أخرى.
تطمح “النهضة” حتّى إلى استعادة تجربتها مع الباجي قائد السبسي الذي توصلت إلى تفاهم معه سمح لها بامتلاك جزء من السلطة، والمحافظة على الموظفين الذين يصل عددهم إلى نحو 200 ألف والذين حشرتهم في الإدارة التونسية وذلك في عهد المرزوقي الذي تلا مباشرة انتصار “ثورة الياسمين” في العام 2011.
هناك جانب مضيء في التجربة التونسية. يتمثل هذا الجانب في أن الانتخابات، أكانت بلدية أو تشريعية أو رئاسية… صارت تجري في مواعيدها، مع ما يعنيه ذلك من قبول لمبدأ التداول السلمي للسلطة.
مثل هذا الجانب المضيء لا يخفي المخاوف التي تحيق بمستقبل تونس بعد وصول قيس سعيّد إلى الرئاسة، وبعد انتخابات تشريعية استطاعت فيها “النهضة” تشكيل أكبر كتلة نيابية (52 نائبا من أصل 217). فقيس سعيّد لم يظهر حتّى الآن أنّه قادر على لعب دور رجل الدولة القادر على استيعاب تعقيدات الوضعين التونسي والإقليمي، فيما على رأس “النهضة” رجل يمتلك خبرة كبيرة في مجال المناورة السياسية هو الشيخ راشد الغنوشي.
يبقى الغنوشي الابن البار لمدرسة الإخوان المسلمين التي تعتبر الوصول إلى السلطة هدفا بحد ذاته، بغض النظر عن الوسائل المعتمدة لبلوغ ذلك. بالنسبة إلى الإخوان إن الغاية تبرر الوسيلة، والوسيلة المعتمدة هي العزف على الوتر الديني. وهذا وتر يؤدي الغرض المطلوب في بلد مثل تونس لا يزال يعم فيه الجهل شريحة واسعة من الطبقة الشعبية، على الرغم من كلّ الجهود التي بُذلت في عهد الحبيب بورقيبة من أجل رفع مستوى الوعي الشعبي والتعليم، وإقامة دولة مدنية يتساوى فيها الرجل والمرأة.
من خلال متابعة المناظرة التلفزيونية التي تواجه فيها قيس سعيّد مع نبيل القروي، ظهر سعيّد مجرد أستاذ جامعي لا خبرة له في السياسة والاقتصاد. لم تساعد التصريحات التي أدلى بها بعد فوزه في تحسين الصورة. ولكن ما العمل بعدما اتخذ التونسيون خيار التخلّص من طبقة سياسية بكاملها ومن أي شخص ارتبط اسمه بالفساد مثل نبيل القروي.
ما حصل حصل. هناك رئيس تونسي جديد يبحث عن صلاحيات واسعة تسمح له بلعب دور على الصعيد الوطني. وهناك في الوقت ذاته حركة “النهضة” الطامحة إلى السيطرة على الحكومة، على أن يكون المقيم في قصر قرطاج مجرّد واجهة لها وللحكومة التي تنوي تشكيلها.
يُتوقع أن تكون المواجهة بين الرئيس الجديد و”النهضة” عنوان المرحلة السياسية المقبلة في تونس، خصوصا مع ذوبان “نداء تونس”، وغياب أي صدقية حقيقية لنبيل القروي، وهو غياب ظهر بوضوح من خلال نتائج انتخابات الدورة الرئاسية الثانية إذ لم يحصل زعيم “قلب تونس” سوى على ربع أصوات الناخبين.
في النهاية تعيش تونس أزمة قيادات. من الصعب تحديد من يتحمّل مسؤولية هذه الأزمة، لكنّ الملفت أن الهمّ الأوّل لزين العابدين بن علي بين العامين 1987 و2010 كان يتمثّل في القضاء على أي أمل بظهور سياسي تونسي يستطيع أن يلعب دورا على الصعيد الوطني. حوّل الرئيس الأسبق الذي توفّى قبل فترة قصيرة تونس إلى مساحة جغرافية يديرها مخفر شرطة برئاسته. هذا لا ينفي أنّه كانت للرجل حسنات من بينها الاهتمام بالاقتصاد، وذلك على الرغم من الفساد الذي مارسه أشقاء زوجته ليلى الطرابلسي، وسعيهم إلى الاستيلاء على القطاعات التي تجني أرباحا سريعة.
الأكيد أنّ قيس سعيّد لم يظهر إلى الآن أنّه يمتلك قماشة القائد السياسي. الكلام عن الحريات يمكن أن يعني الكثير كما يمكن ألّا يعني شيئا. السؤال هل طموحات الشباب التونسي في أستاذ جامعي لم تتلوث يداه بالفساد في مكانها؟ ثمة إشارات توحي بأن الرئيس التونسي الجديد لا يعرف الكثير في السياسة. كلامه عن القضيّة الفلسطينية مضحك إلى حدّ كبير وليس في مكانه ولا في وقته. ما الذي تستطيعه تونس من أجل مساعدة الفلسطينيين الذين تراجع موقع قضيّتهم بشكل دراماتيكي في ضوء التطورات التي يشهدها الشرق الأوسط، خصوصا منذ قرار الإدارة الأميركية في العام 2003 القاضي بإلغاء العراق وإخراجه من المعادلة الإقليمية لمصلحة إيران. ما يكشف مدى جهل قيس سعيّد بالسياسة دعوته إلى مصالحة مع النظام السوري، معتبرا أنّه الدولة السورية. من يصالح هذا النظام يجهل أنّه قتل من الفلسطينيين عشرات المرات ما قتلته إسرائيل! هل هكذا يكون دعم القضيّة الفلسطينية؟ هل يعرف قيس سعيد شيئا عن مأساة مخيّم اليرموك الفلسطيني؟
تحتاج تونس في هذه المرحلة إلى قيادي جريء يقدم على الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة والتي لا مفرّ منها. هذا في حال كان مطلوبا العودة إلى الأرقام المتعلقة بالنمو الاقتصادي في عهد بن علي. بكلام أوضح، هناك حاجة إلى رئيس للجمهورية من دون عقد. يأخذ أفضل ما كان في عهود بورقيبة وبن علي وقائد السبسي ويتفادى الأخطاء التي وقعت في العهود الثلاثة.
الأكيد أن عليه عدم الاكتفاء بالكلام عن الحريات وعن القضيّة الفلسطينية وإطلاق الشعارات التي لا توفر طعاما للشعب ولا فرص عمل. الأكيد أيضا أن عليه تحرير الاقتصاد التونسي وذلك كي لا تبقى القرارات الكبرى المرتبطة بالاستيراد والتصدير والاستثمار في يد الإدارة الحكومية بما يسهّل انتشار الفساد على كلّ المستويات وفي مختلف القطاعات.
ليس سهلا اعتبار قيس سعيد رجل المرحلة، خصوصا أن ليس ما يشير إلى أنه سيكون قادرا على النجاح في خوض أي مواجهة مع “النهضة” بكل ما تمثّله من تخلّف ورغبة في إبقاء الاقتصاد أسير القطاع العام، فيما المجتمع يسير بخطى سريعة نحو مزيد من البؤس. ولكن من يدري، هناك أشخاص تعلّموا سريعا أساليب ممارسة السلطة. قال أحد الرؤساء العرب أمامي عندما لاحظت أن الرئيس الفلاني فاجأني بسرعة في تكيّفه مع ممارسة السلطة “السلطة تعلّم”. هل قيس سعيّد من النوع الذي سيتعلّم سريعا معنى ممارسة السلطة ومعنى التحديات التي يواجهها وطبيعة هذه التحديات؟ أم سيستسلم سريعا أمام “النهضة” ويقبل التعايش معها، أو الإقامة تحت جناحها فيما الوضع التونسي سيزداد سوءا، خصوصا على الصعيد الاقتصادي؟
لا أجوبة عن مثل هذا النوع من الأسئلة. الثابت الوحيد أن قيس سعيّد يتمتع بثقة الشباب التونسي وقسم كبير من الناس كفر بالسياسيين الجدد، سياسيي ما بعد “ثورة الياسمين” وممارساتهم. لكن هل ذلك يكفي كي يصبح ممكنا الرهان على نجاحه كأحد الرؤساء العرب القلائل الذين يمتلكون شرعية حقيقية؟