ثمة حاجة بكل بساطة إلى تغيير جذري في السلوك القطري بعيدا عن المناورات وتمرير الوقت. فالمناورات وتمرير الوقت لن يفضيا إلى أكثر من استغلال تركي للخلافات العربية وانتهازية إيرانية يمارسها نظام فاشل في بحث دائم عن اختراقات في الدول المجاورة. ليس الموضوع موضوع الشماتة بقطر بمقدار ما أنّه مرتبط بمصلحة دول مجلس التعاون الخليجي الذي اسمه “مجلس التعاون لدول الخليج العربية”. من السهل القول إن قطر لم تتحالف أو تتواطأ مع إيران يوميا ضدّ الدول العربية في الخليج وغير الخليج. الحقيقة أنّها تحالفت مع إيران أحيانا ودخلت في تنافس معها في أحيان أخرى، كما حصل في سوريا مثلا.
ما لا يمكن تجاهله أن قطر عملت كلّ شيء من أجل إضعاف مجلس التعاون الخليجي في ضوء ما تعتبره منافسة بينها وبين المملكة العربية السعودية. وهذا ما صبّ بطريقة أو بأخرى في مصلحة إيران التي تتربّص بكلّ دولة من دول الخليج العربي، بما في ذلك سلطة عُمان، التي تعتبر نفسها حالة خاصة.
هناك ظروف معيّنة تفرض على عُمان التعاون مع إيران من منطلق الحدود المشتركة بين البلدين وتحكّمهما معا بمضيق هرمز. لذلك كانت عُمان حليفة لإيران في عهد الشاه الذي أرسل قوات ساعدت في القضاء على ثورة ظفار في أواخر ستينات القرن الماضي وأوائل السبعينات من ذلك القرن.
كذلك، لعبت عُمان دورا أساسيا في التوصّل إلى الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني عندما استضافت المفاوضات السرّية الأميركية-الإيرانية التي مهدّت لتوقيع الاتفاق في مثل هذه الأيّام من صيف العام 2015، عندما كان باراك أوباما لا يزال في البيت الأبيض.
مفهوم إلى حدّ ما ما تفعله عُمان، الحريصة على تلك العلاقة المتميّزة مع إيران بغض النظر عن النظام القائم في طهران. عُمان حليفة لنظام الشاه وحليفة أيضا للنظام الذي أقامه الخميني تحت تسمية “الجمهورية الإسلامية”. لديها فلسفة خاصة لتعاطيها مع إيران.
ما ليس مفهوما هو السياسة القطرية التي تتذرّع بأن حقل الغاز المشترك، وهو من أكبر الحقول في العالم، إن لم يكن أكبرها، يفرض التعاون مع إيران.
نعم، إن اقتسام ثروات هذا الحقل تفرض تعاونا في مجالات معيّنة مع إيران ولكن هل راعت “الجمهورية الإسلامية” يوما المصالح المشروعة لدول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية؟
هل توقفت عن ممارسة سياسة الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية في البحرين؟ هل قبلت أن تكون شيئا آخر غير قوة استعمارية وقوة احتلال على الطريقة الإسرائيلية في ما يخص الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة منذ العام 1971؟
المشكلة أن قطر، على خلاف عُمان ذات الموقع الجغرافي المختلف، والتركيبة السكانية الخاصة بها، لم تحسن التنظير لسياستها الإيرانية، خصوصا في عهد الأمير تميم بن حمد. لم يستطع تميم تغطية العداء السافر للسعودية أو للإمارات بعبارات من نوع “الجميع في مركب واحد”.
والقصد بكلمة الجميع كلّ دول مجلس التعاون الخليجي. أكثر من ذلك، لم يستطع الأمير تميم، الذي ورث عن والده مشاكل كثيرة، من بينها تقلّص عائدات النفط والغاز، وكلفة بناء منشآت دورة كأس العالم لكرة القدم في 2022، إيجاد سياسة خاصة به تمكّنه من القول إنّه يعي خطورة البقاء أسير الخطوط العريضة التي رسمها الأب من جهة وتأثير الإخوان المسلمين ونفوذهم من جهة أخرى.
ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه والده من دون أن تكون لديه الأدوات الفعّالة التي تكفل إيجاد مخارج من المآزق، من نوع مأزق التعاون مع إيران في لبنان إلى أقصى حدود التعاون ثمّ دعم بشّار الأسد لمجرّد أنّه صار مغضوبا عليه سعوديا بعد ثبوت الدور الذي لعبه في عملية تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري في العام 2005.
للمرّة الثالثة في غضون أربع سنوات، هناك قرار عربي، خليجي تحديدا، يعبّر إلى حد كبير عن رغبة في أخذ المبادرة ووضع الإدارة الأميركية أمام أمر واقع بدل الرضوخ لما تريده واشنطن.
كانت المرة الأولى الموقف من مصر حيث سعى الإخوان المسلمون إلى خطف البلد مستخدمين كلّ أنواع التزوير والتحايل في الانتخابات النيابية والرئاسية، بما في ذلك الإعلان عن أنهّم لا يريدون الحصول على أكثرية نيابية وإيصال مرشّح منهم إلى رئاسة الجمهورية.
لم تأخذ السعودية والإمارات موقف الإدارة الأميركية في الاعتبار عندما تبيّن أن الشعب المصري يريد التخلص من الإخوان المسلمين ومن رئاسة محمّد مرسي. دعمتا الثورة الشعبية في حزيران-يونيو 2013. تخلصت مصر أخيرا من حكم الإخوان المسلمين، الذي كان يحظى بدعم إيراني مباشر وغير مباشر، ووفّرتا مع الكويت مساعدات للحكم الجديد الذي صار على رأسه عبدالفتاح السيسي.
كانت المرّة الثانية في اليمن. انطلقت “عاصفة الحزم” في آذار-مارس لوضع حد لمشروع إيراني يستهدف تطويق دول الخليج العربي من كلّ الجهات وذلك على الرغم من كلّ التحفّظات الأميركية.
كانت قطر شريكا في “عاصفة الحزم”، لكنها لم تكن في أيّ وقت شريكا فعّالا، بل كانت مشاركتها من باب رفع العتب لا أكثر ولا أقلّ وفي إطار حسابات خاصة جدا مرتبطة بتطور العلاقات بين السعودية والإمارات نحو مزيد من التنسيق في العمق بين الجانبين.
جاءت المرة الثالثة في ظلّ أجواء أميركية مواتية سهّلها رحيل باراك أوباما عن البيت الأبيض. ليس الموقف السعودي-الإماراتي-البحريني-المصري من قطر موقفا أميركيا.
هناك مرّة أخرى موقف عربي مستقل تفرضه المصلحة المشتركة الخليجية. صحيح أن الموقف الأميركي من قطر والدور الذي تلعبه على الصعيد الإقليمي صار مختلفا وأقرب إلى التفكير السائد في الرياض وأبوظبي، لكنّ الصحيح أيضا أن ليس في الإمكان اللجوء، قطريا، إلى وسائل قديمة لاسترضاء الولايات المتحدة من نوع صفقة طائرات “إف-15″ ببضع مليارات من الدولارات معها. ليس في استطاعة قطر ممارسة الشيء وضدّه في الوقت ذاته. هذه لعبة انتهت ولا بد من البحث عن لعبة جديدة.
مشكلة قطر ليست مع الولايات المتحدة على الرغم من أن هناك تغييرا في الولايات المتحدة. لم تعد قاعدة العديد غطاء كافيا يسمح لقطر بممارسة كلّ أنواع السياسات، بما في ذلك عقد صفقات مع إيران وأدواتها في شأن سوريا بحجة إطلاق الصيادين الذين احتجزوا في بادية السماوة العراقية أواخر العام 2015. ما هذه الصفقة التي تؤمّن لميليشيات مذهبية إيرانية وأخرى تمثل امتدادا لـ”القاعدة” بالحصول على كميات ضخمة من الأموال قطرية؟
مشكلة قطر مع محيطها العربي أوّلا وأخيرا. هناك ثلاثة أمثلة لا يمكن الهرب منها من أجل العودة إلى ممارسة سياسات قديمة باتت جزءا لا يتجزّأ من نهج قطري يقوم على فكرة التذاكي والذهاب إلى أمكنة لا يستطيع الآخرون الذهاب إليها.
ثمة حاجة بكل بساطة إلى تغيير جذري في السلوك القطري بعيدا عن المناورات وتمرير الوقت. فالمناورات وتمرير الوقت لن يفضيا إلى أكثر من استغلال تركي للخلافات العربية-العربية وانتهازية إيرانية يمارسها نظام فاشل في بحث دائم عن اختراقات في الدول المجاورة وفي مناطق بعيدة مثل لبنان، على سبيل المثال وليس الحصر.
ما حصل بعد دعم مصر كي تتخلّص من الإخوان المسلمين وحكمهم، إنما حصل خلافا لرغبات واشنطن. ما يحصل حاليا من مقاطعة لقطر لا يحظى في الضرورة بتأييد أميركي تام، لكنه دليل على أن إدارة ترامب بدأت تنحاز إلى العرب العقلانيين الذين امتلكوا ما يكفي من الوعي والحسّ بضرورة حماية المصلحة الخليجية للتحرّك بجرأة واستقلالية عندما تطلّب الأمر ذلك، أكان ذلك تجاه مصر في 2013 أو تجاه اليمن في 2015… أو تجاه قطر في 2017.