من يتابع مسيرة رجل بقي وزيرا للدفاع في سوريا طوال كل هذه السنوات، لا يستغرب ما الذي حل بهذا البلد ولماذا لم يكن ممكنا لسوريا الأسد أن تنتهي بغير طريقة الموت السريري التي انتهى بها وزير دفاعها.
لم يكن العماد مصطفى طلاس الذي بقي طويلا وزيرا للدفاع في ما كان يعرف بـ“الجمهورية العربية السورية” سوى نموذج لما يفترض أن يكون عليه الضابط السنّي في هذا البلد منذ تأسس النظام القائم في العام 1970. بل يمكن القول إن النظام هذا تأسس في الثالث والعشرين من شباط – فبراير 1966 لدى حصول الانقلاب الأول للضباط العلويين الذين جاؤوا إلى السلطة في الثامن من آذار – مارس 1963 مع حزب البعث. كان لا يزال البعث يمتلك وقتذاك واجهة مدنية تغطي على فكره المتخلف بكل المقاييس.
لعب طلاس، وهـو من الرستن قرب حمص، كلّ الأدوار المطلوبـة منه في كلّ مرحلة من المراحل وصولا إلى انتقاله إلى فرنسا في العام 2012 بعد سنة من اندلاع الثورة السورية التي لم يؤمن بها يوما. من الملفت أنه لم تصدر عنه كلمة انتقاد واحد للنظام الذي عاش في ظلّه. بقي وفيّا لمن ارتكبه وعلـق له كل النيـاشـين والأوسمـة التي استحقها عن جدارة ليست بعدها جدارة، خصوصا عندما كان مطلوبا استخدامه في مرحلة معيّنة من المراحل. كانت الأوسمة والنياشين على صدر طلاس عربونا عـن خـدمات قدّمهـا لمعلّميه، ولا عـلاقة لها من قريب أو بعيد بأي إنجازات عسكرية.
كانت لدى طلاس مواهب كثيرة. في مقدّمة هذه المواهب إدراكه الباكر أن حافظ الأسد سيكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في سوريا. لذلك، انضم باكرا إلى المجموعة القريبة منه في مواجهة “الرفاق” الآخرين، على رأسهم صلاح جديد ونورالدين الأتاسي ويوسف زعيّن.
بين كلّ مواهب مصطفى طلاس، كانت هناك موهبة واحدة وحيدة طغت على كل ما عداها. إنّها موهبة التملّق لحافظ الأسد ومعرفته بأن الرجل في حاجة دائمة إلى أشخاص من أمثاله يمتلكون مواصفات معيّنة لا تتوافر إلا لدى قلة. بين هذه المواصفات أنه ضابط سني من خارج المدن الكبرى مستعد لكل شيء. لم يكن من دمشق أو حمص أو حماة أو حلب. كان ضباط المدن الكبرى يمثلون كل ما يكرهه حافظ الأسد. كان للأسد الأب حقد كبير، ليس بعده حقد، على أهل المدن، هو الآتي من الريف العلوي الذي طالما عانى، حسب اعتقاده، من الإقطاع السنّي. هناك خطب عدة لحافظ الأسد يركز فيها على الإقطاع وذلك في سياق التعبئة العلويّة، التي كان يحتاج إليها بين حين وآخر، ليس إلا.
بالنسبة إلى حافظ الأسد، امتلك مصطفى طلاس كل المواصفات المطلوبة، بما في ذلك سعيه إلى التسلّق اجتماعيا عن طريق الزواج من لميا الجابري التي كانت تنتمي إلى إحدى العائلات البارزة في حلب. صحيح أنّ تلك المرأة لم تكن من الفرع البارز في العائلة، لكن اسم الجابري يبقى له رنينه في سوريا ما بعد الوحدة وما بعـد وصول البعث إلى السلطة. بقي لأسماء العائلات الكبيرة رنينها بعد كل المصائب، بما في ذلك تهجير خيرة الناس من البلد، وهو تهجير تسبّب به الجهلة الذين كانوا وراء الوحدة مع مصر في 1958 ثم الذين انقلبوا على الانفصال في 1963 بحجة العودة إلى الوحدة ـ الكارثة.
وجد حافظ الأسد الذي أسّس نظاما يقوم على الأجهزة الأمنية ضالته في مصطفى طلاس. الرجل يسعى إلى الوجاهة والمال لماذا لا يكون غطاء سنّيا له ولنظامه ما دامت مطالبه معروفة ومحدودة، وما دام لا وجود لطموحات سياسية من أي نوع لديه؟ كيف تكون لمصطفى طلاس طموحات سياسية ما دام الرجل على استعداد لتزويج ابنته الجميلة الصغيرة السنّ مـن أكرم عجة؟ وأكرم عجة كان عجوزا غنيا من أصل سوري (جمع ثروته في السعودية). تزوج من ابنة طلاس بعدما رفض نجله الشاب أن تكون الفتاة القادمة مباشرة من دمشق إلى باريس زوجة له!
كان مصطفى طلاس وزيرا للدفاع. كان لديه اللقب والأوسمة. أمّا السلطة والإمرة العسكرية فكانتا في مكان آخر. كانتا في يد الضباط العلويين الذين احتلوا مواقع أساسية على رأس الفرق والألوية العسكرية والأجهزة الأمنية التي لم يكن لها من دور سوى المحافظة على النظام واستكمال السيطرة على لبنان ونهب خيراته في ظلّ اتفاق فك الاشتباك مع إسرائيل. هذا الاتفاق الذي جعل جبهة الجولان هادئة منذ العام 1974، أي منذ أربعة وأربعين عاما. لم يكن اتفاق فكّ الاشتباك سوى الحلقة المكملة لتسليم الجولان في مثل هذه الأيام من العام 1967 عندما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع.
ربّما اكتشف طلاس في الوقت المناسب أهمية حافظ الأسد وأن مستقبلا باهرا ينتظره بعد حرب 1967 والنتائج التي أسفرت عنها.
كان هناك في الوقت ذاته سنّة آخرون على استعداد للعب أدوار حقيقية في ظل معرفتهم بأن مصدر قوتهم الوحيد هو حافظ الأسد ولا أحد غيره. من بين هؤلاء حكمت الشهابي وعبدالحليم خدّام. هناك أدوار رسمت للاثنين، وفي مرحلة لاحقة لفاروق الشرع. لكنّ مصطفى طلاس تميّز عن الجميع وتفوّق عليهم من زاوية أنّه صاحب مدرسة خاصة به جعلت منه شخصا قادرا على العيش في وهم القائد العسكري الكبير المعجب بهتلر… والشاعر والمؤرّخ الذي يتجرّأ على ارتداء أوسمة رفيعة من دون أن يكون خاض أي معركة عسكرية.
مؤسف أن الجيش السوري لم يدخل يوما أي معركة ناجحة مع إسرائيل. كلّ ما فعله هو الانتصار على سوريا والسوريين أولا، ثم على لبنان واللبنانيين، آخذا في طريقه الفلسطينيين.
هذا لا يعني أن مصطفى طلاس كان عديم الفائدة. عندما كان مطلوبا منه توجيه الشتائم إلى ياسر عرفات ورفعت الأسد وصدّام حسين، فعل ذلك من دون تردّد. استخدم أقذع الألفاظ وأكثرها سوقية في هجاء الثلاثة. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنه لعب في إحـدى المرّات دورا في غـاية الخطورة على الصعيد السوري وفاء منه لحافظ الأسد الذي مكّنه من جمع ثروة والعيش في عالم الوهم الذي صنعه لنفسه، بما في ذلك عالم المغامرات النسائية والانتصارات العسكرية.
عندما توفّى الأسد الأب، في مثل هذه الأيام من عام 2000، تولى مصطفى طلاس، بأوامر وتعليمات من آخرين طبعا، تهيئة المسرح كي يخلفه نجله بشّار.
كان كلّ شيء معدّا لتلك اللحظة، لحظة توريث السلطة في سوريا. جرت عملية إبعاد باكرة لحكمت الشهابي وجرى تقليص لصلاحيات عبدالحليم خدّام الذي لم يعد أمامه سوى تنفيذ المطلوب منه. كذلك جرت عملية تهميش لكل الضباط العلويين الكبار، من أمثال علي حيدر، الذين كانوا يمكن أن يعرقلوا التوريث أو يحولوا دونه.
فجأة، وبقدرة قادر، صار مصطفى طلاس يمتلك الإمرة على القطاعات العسكرية وتولت ابنته، أرملة أكرم عجة، إبلاغ السلطات العليا السعودية والأميركية والفرنسية والبريطانية نبأ وفاة حافظ الأسد وذلك قبل الإعلان عن ذلك رسميا.
دخل مصطفى طلاس، الموجود في باريس، في غيبوبة قبل أيّام. من الصعب أن يخرج منها، علما أن الأعمار تبقى في يد الله. لكن من يتابع مسيرة رجل بقي وزيرا للدفاع في سوريا طوال كلّ هذه السنوات، لا يعود يستغرب ما الذي حلّ بهذا البلد ولماذا لم يكن ممكنا لسوريا-الأسد أن تنتهي بغير طريقة الموت السريري التي انتهى بها وزير دفاعها.