بعدما وقفنا على قائمة الأرباح التي استفاد منها المغرب مع حكومة بنكيران في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نحاول الآن أن نرسم قائمة الخسائر، التي تكبدتها التجربة الديمقراطية في المغرب مع هذه الحكومة، والهدف هو رسم لوحة موضوعية نسبيا حول حصاد تجربة ستدخل إلى التاريخ بما لها وما عليها.
أولى الخسائر التي تكبدتها التجربة الديمقراطية الفتية في المغرب هي التأويل غير الديمقراطي للوثيقة الدستورية، حيث عمد بنكيران وأصدقاؤه في الحكومة إلى التفريط في صلاحياتهم المكتوبة أسود فوق أبيض في الدستور، وهو الأمر الذي دفع مناضلا يساريا مثل محمد الساسي إلى أن يقول: «إن بنكيران يطبق جيدا دستور 96».
لقد وضع بنكيران أولوية التطبيع مع القصر فوق أولوية تطبيق الدستور، واحترام هندسته التي كانت ثمرة نضالات طويلة ومريرة من قبل أجيال من المناضلين.
أعطى بنكيران تأويلا رئاسيا للنظام السياسي، وقال، أكثر من مرة، إن الملك رئيسه، وإنه جاء إلى الحكومة ليساعد فقط، وإنه لن ينازع أحدا في السلطة، وإنه ييسر ولا يعسر، وإن الجميع مسؤول عن احترام الدستور، هذا في الوقت الذي دعا الملك نفسه الطبقة السياسية إلى تأويل الدستور تأويلا ديمقراطيا، وأوصى رئيس حكومته باحترام الدستور، وعدم خرقه حتى وإن جاءت المبادرة من المحسوبين عليه.. أغلبية القوانين التنظيمية وقرارات التعيينات في المناصب الاستراتيجية كانت مسكونة بهاجس «الملك رئيسي»، وأولوية «تطبيع علاقة الإسلاميين بالقصر»، والخوف من «سوء الفهم»، والخشية من «الربيع الذي تحول إلى خريف»، والنتيجة أننا وضعنا دستور 2011 على الرف واشتغلنا بدستور 96.
خسرنا مع بنكيران نقاطا كثيرة في مؤشرات عالمية حول احترام حقوق الإنسان، وحرية الصحافة، ومحاربة الفساد، والحق في تأسيس الجمعيات، والحق في التظاهر السلمي، وغيرها من مظاهر الحريات الفردية والجماعية، حيث وضع بنكيران لنفسه مساحة ضيقة للحركة، وابتعد كليا عن الأنوية الصلبة للسلطة، معتبرا أنها ليست من اختصاصاته، فلم يفتح بنكيران ملف محاربة الفساد، ولم يفتح ملف الحكامة الأمنية، ولم يفتح ورش إصلاح الإعلام العمومي، ولم يفتح ملف الآلة الدبلوماسية المعطوبة، ولم يفتح علبة الريع الذي تضخم عبر عقود طويلة… ملفات كثيرة أشاح زعيم العدالة والتنمية بوجهه عنها مخافة أن يحتك بالدولة العميقة، وعوض أن يوسع رقعة تحركاته ومجال اختصاصاته، فضل أن يخطب ويخطب، ويعوض السياسات العمومية بالكلام، وبالرسائل المشفرة المبعوثة على ظهور التماسيح والعفاريت والجن، فيما ظل الإنس، المسؤول عن هذه الاختلالات كلها، في مأمن من أي محاسبة أو عقاب.
خسر المغاربة أربع سنوات من زمن إصلاح التعليم والقضاء، وهما ورشان كبيران يشتكيهما المغاربة صباح مساء، ويؤثر فسادهما في الاقتصاد والاجتماع والاستقرار. في التعليم، لم تكن الأفكار هي ما ينقص بنكيران، فهو رجل تعليم لديه تصور «ثوري» حول إصلاح التعليم العمومي ولديه تشخيص دقيق لأعطابه، لكن ما كان ينقص بنكيران هو جرأة استعادة قطاع التعليم الذي خرج يده بعد انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة، حتى إن الوزير بلمختار صار سبب متاعب عدة لرئيس الحكومة اضطرت هذا الأخير إلى الخروج العلني في البرلمان لتقريعه وإرجاعه إلى حجمه الطبيعي.
أما القضاء فإن حكومة بنكيران أضاعت فرصة تاريخية لن تتكرر لإصلاحه، وذلك لإن الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة خرج من الخيمة مائلا، فالوزير مصطفى الرميد، المشهود له بالنزاهة، حول لجنة الحوار من هيأة استشارية إلى أخرى تقريرية، ووضع في سفينة إصلاح القضاء جل المسؤولين عن اختلالات العدالة في المغرب، ورفع الجميع شعار الإصلاح بالأدوات القديمة نفسها، التي كانت سببا في ما وصل إليه مرفق العدالة من أعطاب، والنتيجة أن لوبي الفساد في العدالة تقوى أكثر، وأصبح آمنا من بطش وزير آلى على نفسه ألا يتدخل في القضاء، لكنه ترك الجميع يتدخل باستثنائه هو.
وكانت أم الأخطاء هي خضوع الوزير لضغوط القضاة، الذين انتزعوا مطالب فئوية من يد الحكومة والبرلمان، وصاروا يشرعون لأنفسهم، وهكذا قطعوا النيابة العامة من جسم الوزارة دون أن يضعوها في أيادٍ منتخبة تعطي الحساب للمؤسسات والشعب، ونزعوا صلاحيات وضع السياسة الجنائية من الحكومة المنتخبة، وتحولت الوزارة إلى صدفة فارغة، ولم يعد للشعب ولا للبرلمان ولا لأي مؤسسة أخرى إمكانية مراقبة قرارات النيابة العامة.
خسر المغاربة مع حكومة بنكيران عشرات الآلاف من مناصب الشغل، حيث لم تعطَ الأولوية لهذا الملف الحيوي، الذي يعتبر أولوية الأولويات بالنسبة إلى كل الحكومات في العالم. منذ اليوم الأول نجح تقنوقراط الإدارة، وخاصة في وزارة المالية، في الاستيلاء على التفكير الاقتصادي لرئيس الحكومة، وأدخلوا إلى عقل بنكيران، الذي لم تكن له تجربة سابقة في إدارة السلطة، أن الملف رقم واحد في المغرب هو عجز الميزانية وتكلفة الدعم المتضخمة، وسمعة المغرب لدى البنك الدولي.
وهكذا بقي بنكيران مسجونا في هذا القفص، ولم يساعده المحيطون به، وجلهم بلا خبرة كبيرة ولا تجربة، في البحث عن طرق مبتكرة وجديدة لخلق مناصب الشغل التي نزلت ومعها نزل مستوى عيش آلاف الأسر، حتى إن 10 آلاف مغربي هاجروا في شهر واحد السنة الماضية بطرق سرية إلى ألمانيا ودول أوروبية أخرى، متسللين وسط اللاجئين السوريين والعراقيين.
جل الحكومات تدبر الندرة لا الوفرة، وجل الحكومات تختار بين السيئ والأسوأ، وليس بين الجيد والأجود، لكن مع كل هذا كانت أوراق كثيرة بين يدي بنكيران، وأضاعها بطريقة تبعث على الدهشة.. كان في يده دستور متقدم لم يستفد منه، وكانت في يده مؤسسة رئاسة الحكومة لم ينجح في تأثيثها بطاقم كبير وخبير لملء وعاء الصلاحيات التي أصبحت لرئيس الحكومة، وكانت أمام بنكيران شعبية كبيرة لم يجعلها وقودا ينتج إصلاحات جوهرية كثيرة، اقتصر دوره على التنديد بالتحكم في الخطب والإعلام، فيما يده كانت مغلولة في السلطة.
هكذا تبدو صورة حصيلة الحكومة بعين صحافي متابع، أما الموازنة بين لائحة الخسارات والأرباح فنتركها للقراء.. إلى اللقاء.