توفيق بوعشرين
على ذلك الدرب كلنا سائرون، وعلى الموت جميعا مقبلون، لكن السؤال هو كيف نسير إلى أجلنا المحتوم؟ وكيف ننهي قصة حياتنا على هذه الأرض؟ السي العربي المساري، وهذه شهادة لله وللتاريخ، عاش ومات في هدوء وسلام مع نفسه ومع محيطه. قضى 60 سنة في رحاب الصحافة والسياسة والدبلوماسية، ومات وهو منسجم مع مبادئه، مخلصا لمثله وقيمه.. لسان أنعم من الحرير، وقلم أنظف من قطرة الندى، وعقل منفتح على العصر، وفكر مهموم بقضايا الوطن. كان السي العربي يجمع ولا يفرق، يصالح ولا يخاصم، يداوي ولا يجرح. لم يكن صوفيا منعزلا في رحاب بيته أو تحت قبة زاويته، أبدا، عاش الحياة بطولها وعرضها. خالط السلطة والنضال والحزب والنقابة. جرب الحكومة والمعارضة. كان صحافيا مرموقا ومؤرخا واسع الاطلاع، ودبلوماسيا محنكا، وبرلمانيا محترما، ومناضلا في البيت الاستقلالي بلا أطماع ولا تملق، ثم وزيرا للاتصال لم يتردد في وضع استقالته أكثر من مرة عندما أحس بأن الطريق إلى إصلاح التلفزيون مسدود… في كل هذه المهام التي تقلدها، كان العربي المساري رجل سياسة وأخلاق، فلا هو ثوري يلغي الواقع وموازين القوى، ولا هو برغماتي ينسى المبادئ والقيم، وينساق وراء مرونة بلا ضوابط أو مصالح شخصية مقنعة بإكراهات، يجيد السياسيون حبكها.
رحمك الله السي العربي، كنت بحق مدرسة في الصحافة والسياسة والحياة، لهذا خسارتك اليوم لا تعوض، وفقدك لا عزاء فيه، وغيابك عن وطنك وأسرتك وأصدقائك ومحبيك ألم لا شفاء منه.
الاختبار الحقيقي لرجل السياسة في السلطة لا في المعارضة، ولهذا نجح السي العربي في امتحان الحكومة كما نجح في امتحان المعارضة. لم يقض في البيت الوزاري سوى أقل من سنتين، ومنذ اليوم الأول كان دفتر الإصلاح واضحا أمامه.. قانون جديد للصحافة ينظم الحرية وليس الرقابة. تحرير القطاع السمعي البصري لكي يرفع احتكار الدولة عن هذا المجال الحيوي. إرجاع موظفي وزارة الداخلية إلى مواقعهم الطبيعية، وإبعادهم عن الإعلام الذي وضعهم إدريس البصري فيه ذات حماقة جعلت السلطة تجمع الإعلام والداخلية في يد واحدة… لما ظهر للوزير العربي المساري أن الدولة غير مهيأة لهذه الإصلاحات، وأن القصر لا يريد أن يرفع يده عن الإعلام، وضع استقالته بين يدي عبد الرحمان اليوسفي دون ضجيج، وطلب من الوزير الأول آنذاك أن يصرف هذه الاستقالة في الوقت الذي يريد. رفض اليوسفي نزول المساري من سفينة حكومة التناوب، وقال له: «اصبر، فهذا ما نصنعه جميعا»، لكن السي العربي كان واضحا في اختياراته.. قال لليوسفي: «يستطيع الناس أن يتفهموا الإكراهات التي تحيط بعملك لأنك بصدد بناء تجربة كبيرة بأبعاد تاريخية، أما أنا فالشعب ينتظر مني شيئين؛ قانون جديد للصحافة وقانون لتحرير القطاع السمعي البصري، وما لم يتم ذلك فلا أحد يفهم لماذا أنا في الوزارة». لما خرج من الحكومة في أول تعديل مع مجيء محمد السادس للحكم قال لأصدقائه: «بخروجي من الحكومة استرحت، إذ تخلصت من تهمة التلبس بأنني لم أفعل ما كان منتظرا مني. تخلصت من تهمة قول شيء في المعارضة وفعل شيء في الحكومة». هذا هو العربي.. رجل من طينة خاصة، لم يغره المنصب ليطبع مع السلطوية، ولم يرتح حتى أغلق الباب من ورائه، ورجع للكتابة والكتب والمحاضرات والأنشطة التي كانت مفتوحة أمامه بعد أن تخلص من شبهة التلبس الحكومي. كان يعز عليه أن يقامر برصيده ومصداقيته من أجل وزارة.
كان الإصلاح والديمقراطية والتحديث بوصلته في الحياة. له مقال واحد في كل المقامات. كان يكتب ما يفكر فيه، ويعمل ما ينسجم مع قناعته، لهذا عاش سعيدا، ومات مطمئنا إلى أنه ترك بصمة في هذه الدنيا وسيرة يفتخر الوطن بها لرجل من زمن آخر.
كان يقرأ ويتكلم ويكتب بأربع لغات؛ العربية حبه الأول، والإسبانية عشقه الثاني، والفرنسية التي قال عنها إنها غنيمة حرب، والبرتغالية التي فتحت له أبواب البرازيل سفيرا مميزا لبلاده، ووجها من المعارضة لتمثيل القصر الملكي. كان ملف الصحراء شاغله الأول، فحفر في الماضي والحاضر لبناء تصور للمستقبل.. تصور لا انفصال فيه لثلث مساحة المغرب، وكان شاغله الثاني هو بناء تجربة انتقال ديمقراطي على الطراز الإسباني في بلد محافظ مثل المغرب، لا يبعد إلا 12 كلم عن أوروبا، وكان همه الثالث هو جعل حوض البحر الأبيض المتوسط طاولة تجمع ولا تفرق بين الحضارات العربية والأندلسية والأوروبية والرومانية والإغريقية المحيطة بها، وجعل الحوار والتواصل والتثاقف لغة لكل الجالسين إلى هذه الطاولة المعبأة بالثقافة والحضارة والصراع والمصالح، وكل هذا من أجل بحر يصل ولا يعزل.
على هذا عاش رفيقنا وعلى هذا مات، وما بدل تبديلا… رحمك الله السي العربي، ورزق ابنتك منى الصبر والقدرة على تحمل غيابك عنها وعنا جميعا…