خطاب الصراحة

خطاب الصراحة

المغرب اليوم -

خطاب الصراحة

توفيق بو عشرين

مرة أخرى يختار الملك محمد السادس أسلوب الصراحة والنقد الذاتي ولغة الحقيقة في الحديث مع الشعب. هذه السنة، وكما في السنوات الأخيرة، ركز الجالس على العرش على أعطاب النموذج المغربي، أي أن محمد السادس اختار أن يعرض نصف الكأس الفارغ لا المملوء، وهذا على عكس الخطاب الإعلامي الرسمي الذي «يقصف» به فيصل العرايشي، الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتفلزة، المغاربة طوال السنة في التلفزات الرسمية التي تحتكر المشهد الإعلامي البصري.

«إن مذهبنا في الحكم هو خدمة الشعب، وإن كل ما تحقق غير كافٍ لوصول ثمار النمو إلى كل المواطنين»، هكذا استهل الملك الخطاب السادس عشر لجلوسه على العرش، محاولا أن يبعث دينامية جديدة في عقل الدولة وعمل الحكومة وتفكير النخبة، فما هي رسائل الملك إلى الشعب؟

الرسالة الأولى: الفقر والهشاشة والتهميش وانعدام البنيات الأساسية مازالت تمس 12 مليون مواطن مغربي في أكثر من 29 ألف دوار، وفي 1272 جماعة تعاني الخصاص، ولهذا الهدف تمت دراسة حوالي 20 ألف مشروع تستهدف 24 ألف دوار، بميزانية إجمالية تبلغ حوالي 50 مليار درهم.

هذا التشخيص الذي قدمه الملك بني على دراسة ميدانية قامت بها وزارة الداخلية، ووقفت على الخصاص الكبير الذي مازال المواطنون في القرى، كما في ضواحي المدن، يعانونه رغم إكمال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية عقدها الأول، فما هو الحل؟ الملك يطلب من الحكومة توفير 50 مليار درهم لبرنامج استعجالي لتغطية الخصاص الموجود في البنيات التحتية والمدارس والمستشفيات في المناطق الأولى بالرعاية. ماذا يعني هذا؟

هذا معناه، أولا، أن الحكومة لا تفكر في الموضوع الاجتماعي وثقوبه وعاهاته بالشكل المطلوب، وأن الأرقام التي قدمها الملك تدين الحكومة الحالية والحكومات السابقة، وهذا، ثانيا، يكشف محدودية نتائج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي عهد بتنفيذها إلى وزارة الداخلية، وهذا، يكشف ثالثا، أن البلاد لا تتوفر على نموذج اقتصادي تنموي يستطيع أن يصحح الاختلالات المحلية تلقائيا دون تدخل من المركز أو من القصر، في كل مرة، لوضع برنامج استعجالي لإخراج ثلث سكان البلاد من العزلة في الدواوير والأحياء والقرى وأحزمة الفقر في المدن، وأن بلادنا تفتقر إلى الآليات والبرامج التي تشتغل ذاتيا لتلبية احتياجات الناس، وأن المجالس المنتخبة وسلطات الوصاية ونظام الضريبة ومبدأ التكافؤ.. كل هذا معطل ولا يشتغل، وأن البلاد محتاجة دائما وأبدا إلى تدخل الملك في أدق التفاصيل.. لكي يصل الماء الصالح للشرب إلى السكان، ولكي تربط القرى بالكهرباء، ولكي تنطلق مبادرات لتشغيل الشباب. هذا يجعلنا مبدئيا في نموذج تقليدي للرعاية من فوق، وليس نموذجا عصريا لإدارة الموارد وتوزيع عائدات النمو واشتغال الجماعة والعمالة والولاية والحكومة والبرلمان…

هذا أيضا يجب أن يلفت نظرنا إلى أن جوهر السياسة اليوم في المغرب يدور حول المسألة الاجتماعية، وإذا لم نقطع مع ذلك «الكليشي» الذي يخرج كل مرة في وجه الحكومة، من أنها تسعى من وراء السياسات الاجتماعية إلى شراء أصوات الناخبين، فإننا لن نخرج من هذه الدوامة. الملف الاجتماعي ليس مجالا محفوظا للملك، وعلى الحكومة والمنتخبين والإدارة والقطاع الخاص أن يتحملوا مسؤوليتهم في ترقيع «دربالة» المغرب المثقوبة، قبل أن يتحول المشكل الاجتماعي إلى مشكل سياسي. 50 مليار درهم التي حددها الملك للبرنامج التأهيلي للمناطق السوداء ليس مبلغا كبيرا، ويمكن تدبره من الداخل والخارج. السؤال الآن هو: كيف نرسي نموذجا اقتصاديا واجتماعيا يشتغل ذاتيا ويصحح الاختلالات تلقائيا، دون الحاجة كل مرة إلى إطلاق صفارات الإنذار؟ هنا يجب على الأحزاب أن تتنافس، والحكومات أن تبتكر، والإدارات أن تساير، والمواطن أن يحكم وأن ينفذ حكمه في صناديق الاقتراع.

الرسالة الثانية التي بعث بها الملك إلى الشعب كانت عبارة عن ورقة صفراء في وجه وزارة الخارجية والتعاون والمصالح القنصلية في الخارج، التي يشتكيها منذ عقود مغاربة المهجر، ويتذمرون من خدماتها، ومن احتقار بعض ممثلي الدولة في الخارج لهذه الشريحة. التقريع الذي حمله الخطاب الملكي للقناصة والسفراء وإدارتهم المركزية في الرباط شيء قليل في حق موظفين كبار يتلقون أجورا عالية دون أن يقدموا أدنى خدمة للمواطن (مازلت أذكر منذ سنوات زيارتي للقنصلية المغربية في مونريال بكندا، حيث فوجئت بأنها لا تتوفر على مرحاض، في الوقت الذي يقصدها المغاربة من مناطق بعيدة مع أسرهم لطلب وثيقة أو تجديد جواز السفر). لكن الملاحظة الملكية على عمل القناصلة تنسحب على كل الإدارات المغربية في الداخل والخارج، لأن هذه الإدارة لم تبنَ منذ اليوم الأول لخدمة المواطن، والدولة لم توجهها إلى هذا الهدف، ولم تضع آليات لمحاسبة مسؤوليها، ولا وضعت للإدارة أهدافا تبلغها ونظاما للتقويم والمراجعة. فطبيعي أن تتحول الإدارة إلى أداة لخدمة الدولة أولا، ولخدمة المصالح الخاصة ثانيا. القنصل الذي لا يستطيع أن يقدم خدمات بسيطة لمغاربة المهجر هو نفسه القنصل الذي يشتغل بهمة ونشاط وفعالية عندما يتعلق الأمر بإعداد تقارير أمنية عن معارض مغربي في بلاد الغربة، مثلا، وعن نشاط جمعية تراها الإدارة في الرباط مناهضة للخط الرسمي، وهكذا تتربى ثقافة أمنية وسط القناصلة لا ثقافة خدمة المواطن.

الرسالة الثالثة في الخطاب الملكي هي تجديد الدعوة إلى النهوض بورش التعليم المعطوب في البلاد. هنا جدد ملك المغرب تأكيد حيوية هذا الورش، وضرورة إصلاح المدرسة العمومية، والانفتاح على اللغات، مؤكدا أن تعلم اللغات الأجنبية لا يهدد الهوية الوطنية بل بالعكس يفتح مجالات للتطور والانفتاح. مرة أخرى نجد أنفسنا أمام دعوات متكررة إلى إصلاح المدرسة، فلا الميثاق نفع، ولا البرنامج الاستعجالي نفع، ولا يبدو أن محاولات عزيمان ومجلسه الآن أمامها حظوظ كبيرة للنجاح في إرساء أسس مدرسة عمومية تكفل للمغاربة حظوظا كبيرة في ولوج سوق الشغل. هناك خطاب إصلاحي، لكن ليس هناك خطاب نقدي في منهج الإصلاح المتبع إلى الآن، مازلنا ندور في حلقة مفرغة، ونجرب الوصفات السهلة للإصلاح.. الأمر يحتاج إلى علاج بالصدمة، وإلى الآن طبيبه لم يظهر بعد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خطاب الصراحة خطاب الصراحة



GMT 10:34 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

بجعة سوداء

GMT 10:32 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 10:31 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تنظير في الاقتصاد بلا نتائج!

GMT 10:29 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

لبنان... إلى أين؟

GMT 10:27 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط والشرع وجروح الأسدين

GMT 10:25 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عن «شاهبندر الإخوان»... يوسف ندا

GMT 10:06 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

المثقف وزرقاء اليمامة وكناري المنجم

GMT 10:04 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تطابق من سبايك لى إلى هانى أبو أسعد!!

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

عمان - المغرب اليوم

GMT 15:56 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024

GMT 17:41 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 08:33 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحوت الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 18:27 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميداليتان للجزائر في الدورة المفتوحة للجيدو في دكار

GMT 17:40 2019 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

نجم ليفربول يشعل مواقع التواصل بمبادرة "غريزية" غير مسبوقة

GMT 14:14 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

متزوجة تعتدي على فتاة في مراكش بسبب سائح خليجي

GMT 10:41 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

عروض فرقة الفلامنكو الأندلسية على مسرح دونيم الفرنسي

GMT 16:22 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

جدول أعمال مجلس الحكومة المغربية في 25 كانون الثاني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib