توفيق بوعشرين
نزل أول أمس عن عرشه بعد 17 سنة من السخرية والنقد اللاذع ووخز الإبر في مؤخرة اليمين واليسار.. إنه الكوميدي الأمريكي جون ستيوارت، ولأنه يسخر من كل شيء، فإنه اختار في الحلقة الأخيرة من برنامجه «ذا دايلي شو»، على قناة «كوميدي سنترال»، أن يسخر من نفسه، فقال: «سأتناول العشاء، في أيام الأسبوع المقبل، مع أفراد عائلتي، الذين سمعت من مصادر متعددة أنهم أشخاص لطيفون»، في إشارة ساخرة إلى عدم رؤيته عائلته، خلال السنوات الماضية، بسبب عمله.
على مدار أكثر من عقد ونصف انتزع جون ستيوارت ملايين الضحكات من الأمريكيين، وحكى عشرات الآلاف من النكت، وأغلبها سياسي، في محاولة لاستعمال سلاح السخرية لانتقاد السياسيين والإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض.. عرى تناقضات بوش، وارتباك أوباما، ومغامرات كلينتون، وعنصرية قناة «فوكس نيوز»، ووصل إلى نقد إسرائيل وحربها على غزة، وسياسة تحرير قناة cnn وازدواجية معاييرها. انتقد رجال الدين والمال والإعلام. كان عمله أكثر من رائع هو وفريقه والمحطة التي يعمل بها، والتي حمته من الانتقادات الشديدة التي كانت جلها تهدف إلى إسكات صوته الذي يصل إلى المواطن العادي، حتى إن جون ستيوارت أصبح من المؤثرين في القرار السياسي لبلاده، ودفع آخرين إلى الاقتداء بتجربته الناجحة في أمريكا وخارجها.
يوم توقف برنامج باسم يوسف في مصر على يد الجنرال السيسي، الذي احتفى أول أمس بفتح ممر جديد لقناة السويس بعد أن أغلق كل أبواب الحرية في بلاده، خصص ستيوارت حلقة كاملة لهذا الحدث، وسأل باسم في بلاتو البرنامج: «ما هي التهمة التي وجهت إليك؟»، فقال باسم: «انتقاد الرئيس وإهانة الإسلام»، فرد ستيوارت: «وهل هذا ممنوع في القانون عندكم؟»، فأجاب باسم: «حسب قراءة كل سلطة للقانون في مصر.. القانون عندنا مطاط جدا»، فرد ستيوارت: «من حسن حظ قناة فوكس نيوز أنها لا تذاع في مصر، وإلا لقلنا لها باي باي منذ مدة»، في إشارة لئيمة إلى تخصص هذه القناة التلفزية في إهانة الإسلام كل يوم.
خرج أول أمس أبرز ساخر في بلاد العم سام، وترك مكانه لنجم صاعد من جنوب إفريقيا اسمه تريفور نوح ليحمل مشعل برنامج ترك بصمة قوية على المشهد الإعلامي الأمريكي…
حتى الديمقراطية لا تستغني عن السخرية والنقد رغم أن حكمها شرعي، ومؤسساتها منتخبة، وسلطتها محدودة، فما بالك بالسلطويات المنتشرة في كل مكان في العالم، حيث لا شرعية ولا حرية ولا مؤسسات.
السخرية السياسية أداة لإزالة القداسة عن السلطة، ولتذكير السياسيين بأنهم بشر من لحم ودم، وأنهم يخطئون ويصيبون.. السخرية وظيفتها أن تبسط النقد السياسي ليصل إلى رجل وامرأة الشارع، وأن تجعل من القرار العمومي مادة للضحك، وأن تضع السياسيين أمام تناقضاتهم.. هذه هي الوظيفة البيداغوجية للسخرية، بعدها تأتي الموهبة والتقنيات والثقافة والكتابة وعمل الفريق ومخزون الأرشيف، والقدرة على خلط كل هذا في عمل فني وإعلامي وسياسي.
كان في المغرب مشروع واعد للسخرية السياسية يحمل مشعله الثنائي باز وبزيز ثم أجهض، ولما خرج الفنان أحمد السنوسي ليؤسس تجربة غنية في السخرية السياسية تعرض للقمع والمنع لمدة تقارب العقدين. أقفل في وجهه التلفزيون، ومنعت عروضه الفنية، وشنت عليه حملات ظالمة لكسر لسانه السليط. فهم الباقون الرسالة، وتوجهوا إلى السخرية من المجتمع عِوَض السخرية من السلطة، وهنا برزت أسماء وعروض وظواهر جلها بلا موهبة ولا ثقافة ولا ذكاء، جلهم ابتذلوا السخرية من البدوي وثقافته ولكنته بطريقة تقترب من العنصرية، ومن توفرت له بعض خصائص الموهبة تخصص في الإعلانات وفي الأعمال التي لا تغضب السلطة التي مازالت، عبر التلفزيونات الرسمية، تراقب الإنتاج السمعي البصري.
السخرية ممنوعة في المغرب، والكاريكاتير محاصر، والنقد مسيج، والخوف سيد الموقف. هذا أحد أعطاب التجربة المغربية والثقافة المغربية التي لا تتسامح مع النكتة في المجال العام، لكن هذا لم يمنع هذه النكتة من الانتشار في المجال الخاص، حيث لا يخلو مجلس من نكتة سياسية.
لما ظهر رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في الساحة السياسية لفت الانتباه إليه، وكان من أسباب ذلك استعماله سلاح السخرية في السياسة، والنكت والأمثال والتلقائية في الحديث.. عندما ابتعد الفنانون عن السخرية أقبل عليها السياسيون.. إنها واحدة من مفارقات أجمل بلد في العالم…