صورة الطفل السوري أيلان الكردي، الذي رماه البحر على شاطئ إحدى المدن التركية جثة باردة أول أمس، هزت مشاعر العالم الذي ظل يتفرج على الجرح السوري النازف لمدة أربع سنوات، وها هي حكوماته تذرف دموع التماسيح على آلاف العائلات التي تموت كل يوم في عرض البحر أو في ثلاجات نقل اللحوم في المجر.
الموت في عرض البحر أرحم من الموت تحت نيران البراميل المتفجرة لبشار الأسد، والموت بين الأسماك أرحم من الموت على يد داعش التي تجرب أقسى مظاهر التوحش في شعب أعزل يموت كل يوم تحت أعين الكاميرات، ليبقى الأسد في قصر الحكم، ولتبقى سوريا ورقة ضغط في يد إيران وروسيا، ولتبقى الرقة العاصمة الثانية لـ«أمير المؤمنين» أبي بكر البغدادي، ولتبقى الشام ساحة مواجهة بين دول الخليج وطهران…
أوروبا المنافقة التي تعطي الدروس للعالم حول حقوق الإنسان والحيوان ووحدة المصير البشري، وواجب التضامن بين الشعوب، وتحول العالم إلى قرية صغيرة.. أوروبا هذه الأيام تشهد أكبر سقوط أخلاقي منذ الحرب العالمية الثانية، وحكوماتها الغنية تقفل الأبواب أمام النازحين السوريين الهاربين بأبنائهم وبناتهم وأحلامهم وكرامتهم من المحرقة السورية إلى القارة العجوز. لقد أغلقوا في وجوههم الحدود البرية، وتركوهم يموتون تحت أعين الكاميرا من الجوع والخوف والهوان، وها هم اللاجؤون يركبون عرض البحر بأمل واحد في المائة في النجاة.. هذه النسبة الضئيلة لم يعد يوفرها البقاء فوق الأرض السورية أو الدول المجاورة. لقد قتل في الحرب السورية إلى الآن أكثر من 350 ألف إنسان، ومازال العداد يدور ومعه يتعرى العالم العربي والغربي من أخلاقه وإنسانيته ومروءته…
أمس نشر ناشطون سوريون رسالة وجدت في جيب فتى صغير قضى غرقا في عرض البحر، وكان في قارب من 200 شخص ركبوا الموج فرارا من نار الحرب، فانتهى جثة على شاطئ البحر.. تقول الرسالة التي كتبت في القارب ساعات قبل غرقه:
«أنا آسف يا أمي، لقد غرقت السفينة بنا ولم أستطع الوصول إلى أوروبا، كما لن أتمكن من إرسال المبالغ التي استدنتها لكي أدفع أجر الرحلة (يتراوح أجر الرحلة البحرية للوصول إلى أوروبا بطريقة غير شرعية ما بين ألف و5 آلاف يورو حسب دولة الانطلاق).
لا تحزني يا أمي إن لم يجدوا جثتي، فماذا ستفيدك هذه الجثة الآن سوى تكاليف نقل وشحن ودفن وعزاء.
أنا آسف يا أمي لأن الحرب جن جنونها، وكان لا بد لي أن أسافر كغيري من البشر، مع العلم أن أحلامي لم تكن كبيرة كالآخرين، كما تعلمين كل أحلامي كانت بحجم علبة دواء لك، وثمن تصليح أسنانك وبعض الملاليم لشراء الخبز والحليب، وما به نستمر في حياة لا تريدنا فوق ظهرها…
بالمناسبة، لون أسناني سيصير بعد يوم أو يومين أخضر بسبب الطحالب التي ستعلق فيها، ومع ذلك هي أجمل من أسنان الديكتاتور الذي يحكم فوق جماجم السوريين ويجلس فوق أكبر بحيرة دم في العالم.
أنا آسف يا حبيبتي لأنني بنيت لك بيتاً من الوهم، كوخاً خشبياً جميلاً كما كنا نشاهده في الأفلام.. كوخاً بسيطا بعيداً عن البراميل المتفجرة وبعيداً عن الطائفية والانتماءات العرقية وشائعات الجيران عنا.
أنا آسف يا أخي الصغير لأنني لن أستطيع إرسال الخمسين يورو التي وعدتك بإرسالها إليك شهرياً من أوروبا لتشتري لعبا وحلوى وملابس تقيك من البرد القارس الذي ينتظرنا هذه السنة لأن الحرب لن تضع أوزارها قبل أن يحل فصل شتاء جديد.
أنا آسف يا أختي لأنني لن أرسل إليك الهاتف الجديد الذي يحتوي على «الواي فاي» (خدمة الأنترنت اللاسلكي) أسوة بصديقاتك في المدرسة، وحتى تبقي على اطلاع على أخبار الحرب وجولات ديمستورا السياحية…
أنا آسف يا منزلي الجميل لأنني لن أعلق معطفي خلف بابك المشرع على الموت.
أنا آسف أيها الغواصون والباحثون عن المفقودين في قاع البحر، فأنا لا أحمل بطاقة هوية، ولا أعرف اسم البحر الذي غرقت فيه.. كل البحور لدي سواء، أنا هارب من الموت إلى الغرق.
اطمئني يا دائرة اللجوء فأنا لن أكون حملاً ثقيلاً عليك.
شكراً لك أيها البحر الذي استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر.. شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني أو طائفتي أو انتمائي السياسي.
شكراً لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق كل ساعة لمدة يومين ثم تنسانا..
شكراً لحكومات الدول الغربية التي ستنعانا بكلمات جميلة وورود ملونة ثم تذهب إلى البرلمان لتصوت على قوانين جديدة لتشديد الهجرة واللجوء إلى القارة الغنية.
أنا آسف لأني لم أغرق منذ أربع سنوات، ولأنني ترددت في ركوب البحر طوال هذه المدة»…