بقلم توفيق بو عشرين
لم يجد محمد عبادي، الأمين العام لجماعة العدل والإحسان، من موضوع لحشد همم أعضاء الجماعة، وإنعاش ذاكرتهم الدينية، سوى بعث مشروع «الخلافة على منهاج النبوة» من أرشيف الجماعة، والدعوة إلى إحياء هذا الحلم الذي يراود أكبر جماعة دينية في المغرب منذ أربعين سنة.
رأى محمد عبادي، قائد العدل والإحسان، في شريط مصور، أن إقامة الخلافة على منهاج النبوة فريضة الفرائض ومقصد المقاصد اليوم، واستدل على ذلك بإجماع فقهاء القرون الماضية، الذين رأوا في وجوب قيام دولة واحدة لكل المسلمين فريضة بها يقوم الدين، وتنعقد المصلحة، وترفع راية الإسلام في وجه أعدائه، واستدل على ذلك بقول عمر بن الخطاب الذي قال وهو على فراش الموت: «إذا بقي مخالف للإمام بعد ثلاثة أيام فاضربوا عنقه»، وعلق قائد العدل والإحسان على هذه الجملة بالقول: «لم يخالف أحد من الصحابة عمر بن الخطاب، وهذا دليل على إجماع الصحابة على ضرورة تنصيب الإمام الواحد، وجمع شمل الأمة في دولة واحدة»، ثم طاف الشيخ الهادئ على أقوال علماء السلف، من الماوردي إلى ابن حزم إلى الجويني إلى المتأخرين من الفقهاء، رافعا شعار إحياء الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة التي على رأسها أمير واحد للمؤمنين يدين له مليار ونصف مليار مسلم اليوم بالطاعة والولاء، واستشهد بالحديث النبوي الذي يقول: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».
كيف سننصب هذا الإمام على 44 دولة إسلامية اليوم؟ وكيف نسقط الحدود بين هذه الدول المسجلة في الشهر العقاري بالأمم المتحدة؟ وماذا نفعل مع ملايين المسلمين الذين يعيشون في دول غير إسلامية في الصين والهند وأوروبا وأمريكا وروسيا؟ هل نطلب منهم الهجرة من بلاد الكفر وترك أموالهم ووظائفهم هناك، أم نطلب منهم حمل السلاح وإقامة دولة الإسلام حيث يعيشون ضدا على الأغلبية؟ ثم إذا أقنعنا مليارا ونصف مليار مسلم بضرورة الدخول إلى خيمة الخلافة الجديدة، كيف نقنع 44 ملكا وأميرا ورئيسا بترك السلطة، وتسليم بلدانهم وثرواتها وحدودها ومقاعدها في الأمم المتحدة إلى أمير الدولة الإسلامية الجديدة؟
من سوء حظ الشيخ عبادي أن مواطني جمهورية الفايسبوك هم جل من ردوا عليه بالنكتة والسخرية، حيث اقترحوا عليه التوجه إلى أقرب وكالة أسفار، وأخذ تذكرة سفر إلى العراق، والالتحاق بالبغدادي الذي أعلن دولة الإسلام في الموصل، وعلى الخط نفسه استنكر صحافيون وحقوقيون ويساريون وليبراليون أفكار الشيخ التي تحتوي على مطلب غير واقعي، علاوة على الاستشهاد بروايات تاريخية مليئة العنف والقتل وضرب الأعناق، مما لا يجوز لجماعة علقت مبدأ السلمية شعارا فوق بابها الصوفي الذي يأخذ الناس باللين وليس بالشدة.
وفي النهاية جرى تصنيف كلام الشيخ في الخانة «الداعشية»، وتحميل الفضلاء الديمقراطيين، الذين كانوا ينادون بالحوار مع شباب الجماعة، مسؤولية التطبيع مع هذا الفكر السلفي المتجاوز… العبادي الذي لم يعتد الرد على خصومه، اضطر إلى إصدار بيان متلفز جديد تبرأ فيه من الدعوة إلى العنف، ووسع من رقعة حلم الخلافة، وقال إنه مشروع لا يخص المغرب وحده، وإن بلوغه دونه طريق طويل، لكن الشيخ لم يسحب الاستشهاد بكلام عمر بن الخطاب، ولم يعتذر عما قال، ولا وعد بمراجعة الحلم الذي يراه الآخرون كابوسا.
شيخ الجماعة تسبب، بكلامه عن إحياء تراث مات وانقضى، في إحراج شديد لشباب الجماعة، الذين حاولوا، منذ انطلاق الربيع العربي، فك الحصار عن العدل والإحسان، والتواصل مع اليساريين والمثقفين والحقوقيين، ومحاولة تسويق العدل والإحسان باعتبارها حركة إسلامية معتدلة وديمقراطية تدافع عن الدولة المدنية، لهذا خرجت الوجوه الشابة في الجماعة محاولة ترميم ما كسره الشيخ، بإعادة تأويل كلامه على أنه دعوة إلى تأسيس كونفدرالية إسلامية وفق ما هو موجود في الاتحاد الأوروبي، وأن العدل والإحسان كانت ولاتزال حركة سلمية لا تؤمن بالعنف والسيف والقتل.
مشكلة عبادي هي مشكلة جل علماء المسلمين اليوم الذين يريدون أن يحولوا التاريخ الإسلامي إلى عقيدة دينية، وسياسة السلف إلى وحي رباني، جاعلين من القديم حجة على الجديد، ومن السلف سلطة على الخلف، ومن النص قفلا على العقل، فالخلافة الإسلامية ليست من الدين الثابت بل من شؤون الدنيا المتغيرة، وهي كانت إمبراطورية في السابق وليست دولة بالمفهوم الحديث، فالإمبراطورية حدودها حيث تقف جيوشها، أما الدولة فهي بالتعريف القانوني «أرض معلومة ومحفظة، وشعب مهما كان دينه وعرقه، وسلطة تحكم وتراقب هذه الحدود». الخلط بين الإمبراطورية والدولة هو الذي أوقع شيخنا وقبله شيوخ المسلمين في هذه الالتباسات الناتجة عن الإحباط النفسي والثقافي الذي تسبب فيه انفراط عقد الخلافة العثمانية سنة 1924، والتي لم تكن نموذجية ولا متوافقة دائما مع قيم الإسلام ومثله العليا في الدين والدنيا.
الإسلام، يا سادة، لا نظام سياسي فيه ولا نظام اقتصادي ولا نظام إداري… الإسلام دين عقيدة وأخلاق وقيم، وسردية كونية تشرح من أين أتى الإنسان وإلى أين ينتهي (للإسلام في نظام الحكم ثلاث قيم أساسية وهي العدل (دولة الحق والقانون)، والشورى (الديمقراطية)، واختيار الحاكم بالرضى (التعاقد بين الحاكم والمحكوم)، بعدها يمكن للنظام أن يكون جمهوريا أو ملكيا أو رئاسيا أو برلمانيا، أو أي شكل آخر يحفظ هذه القيم ولا يضيعها)، والدولة ليست أداة لحماية الدين، بل أداة لتنظيم شؤون البشر، والتدين مسألة فردية وجماعية تمارس وسط المجتمع، بلا تدخل تقريبا من الدولة الحديثة التي جعلت لنفسها جغرافيا لا تتعداها، ودستورا لا تتجاوزه، ووظائف تتصل بشؤون الدنيا أكثر مما تتصل بشؤون الدين، أو الأديان المختلفة التي تعيش في البلاد نفسها على قاعدة المواطنة. كل هذا غاب عن الشيخ الذي يبدو أنه يعيش مع السلف في كتب التراث وليس بين مواطنيه في هذا العصر، أو أنه يعارض السلطة في بلده فيلجأ إلى تاريخ الإسلام عله يجد سلاحا يقاوم به حاضر المسلمين… لكن النهاية واحدة.. خوف عبادي على الإسلام يقلق راحة المسلمين.