بقلم : توفيق بو عشرين
بقي أكثر من 13 مليون مغربي خارج لوائح الانتخابات المعتمدة في استحقاق السابع من أكتوبر، أي أن نصف المغاربة ممن بلغوا سن الرشد السياسي لن يذهبوا يوم السابع من أكتوبر إلى صندوق الاقتراع، ولن يقولوا رأيهم في من سيسهم في الحكم إلى جانب الملك في الخمس سنوات المقبلة، ولن يوظفوا صوتهم الانتخابي لمعاقبة الأغلبية الحالية ولا لمكافأة حكومة بنكيران…
لا تقولوا لي إن 13 مليون مغربية ومغربي الذين ظلوا خارج العملية الانتخابية كلهم أعضاء في جماعة العدل والإحسان، أو في خلايا النهج الديمقراطي، أو أنهم ناشطون في حركة 20 فبراير، وأن لديهم مخططا آخر للتغيير ولمحاربة الفساد والاستبداد في المغرب، هذه ليست حجة، فكل الحركات والأحزاب والجمعيات والنقابات والمنظمات والزوايا لا تؤطر حتى 10٪ من الشعب، حسب كل الدراسات واستطلاعات الرأي التي أنجزت في العشر سنوات الأخيرة بالمغرب، ويبقى التفسير الوحيد الذي يقنع كاتب هذه الأسطر، إلى أن يثبت العكس، أن عزوف أغلبية الشعب عن المشاركة السياسية، وعن توظيف الصوت الانتخابي لصناعة التغيير الهادئ والجزئي، راجع إلى غياب الوعي السياسي العميق لدى الجمهور، وفتور الإرادة القوية لدى الشعب في أخذ زمام المبادرة بيده، ودخول حلبة السياسة بمفهومها الواسع.. السياسة التي تعطي الفرد قيمة وفعالية، والأغلبيةَ سلطة وهيبة، والأمة تأثيرا في المصير، سواء باستعمال التصويت في الانتخابات أو الاستفتاءات أو التظاهرات أو الاحتجاجات، أو بالتعبير عن الرأي، أو بالانتماء إلى حزب أو نقابة أو جمعية أو نادٍ أو منظمة حقوقية.
السياسة بمفهومها العميق لم تدخل، بعد، إلى رؤوس أغلب الشعب الذي يعاني مشاكل بلا حصر، لكنه يوم الاقتراع يبيع صوته بـ200 درهم، ويقضي السنة كلها يسب الفساد ويلعن المفسدين، ويبكي حاله وحال أولاده، لكنه لا يخرج في تظاهرة سلمية أمام البرلمان ليقول لا للريع، ولا لدولة الكيلومتر 9، ولا يسجل نفسه في اللوائح الانتخابية ليعبر عن رأيه، ولا يوقع حتى بيانا يستنكر فيه واقع حاله. إنه شبيه بمن لم يجرؤوا على دق جدران الخزان في رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» قبل نصف قرن، حيث كان سؤال كنفاني المدهش والصادم في الرواية الرائعة هو: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان»؟ أولئك المستسلمون لقدر الموت في خزان شاحنة لم يجرؤوا على دق الخزان لإسماع صوتهم للعالم، وفضلوا الموت اختناقا… ثلاثة رجال فروا بجلودهم من مخيمات اللاجئين، فيغريهم الخبيث أبو الخيزران بالهروب إلى الكويت في بطن خزان شاحنة مغلق، ويسير بهم تحت شمس حارقة في الصحراء حتى ماتوا دون أن يجرؤوا على دق جدران الخزان. كانت الرواية صادمة يوم صدورها سنة 1963، وهي تصور الوجه الآخر للنكبة.. إنه الاستسلام للواقع من قبل الشعب.
الشعب، مثل بعض النساء، لا يعجبه أن يسمع إلا ما يرضيه أو ما يطريه، لا يحب أن توجه إليه سهام النقد، دائما الخطأ والخطيئة في الآخر، في السلطة، في الأحزاب، في الإعلام، في حين أن الشعب نزيه، طاهر، مثالي، وتقريبا نبي في أرض انقطع عنها الأنبياء والرسل. إن تقديس الشعب والخوف من نقده ثقافة من بقايا الديمقراطية الشعبوية، والاتجاهات الماركسية التي كانت تعلي من قيمة الجماهير، فلاحين وعمالا وطلبة، طمعا في انضمامهم إلى صفوف الثورة البروليتارية ضد البرجوازية «المتعفنة»! بعدها أصبح تملق الجماهير عادة في الأنظمة الديمقراطية، حيث الأحزاب تسعى إلى السلطة لا إلى قول الحقيقة للناس، ومادام صوت الشعب هو الذي يوصل إلى الحكم، فإن الدعاية السياسية طورت أدبا كاملا في تملق الشعب والجماهير، والأمة التي تصنع التاريخ كل يوم، وتجر الأمجاد العظيمة خلفها كل سنة، وتتطلع إلى المستقبل طاهرة، نقية، ورعة، بلا مصالح ولا مثالب كل أربعة أو خمسة أسابيع.
أكثر ما يشدني إلى بعض المفكرين والمثقفين، كعبد الله العروي، أنه لا يسعى إلى إرضاء الشعب، ولا يخطب ود الأغلبية، ولا يتملق الجماهير.. يقول كلمته مهما كانت قاسية، ويوجه سهام نقده إلى السلطة والشعب معا، إلى الدولة والأمة، إلى الحاضر والماضي، إلى الثقافة والتراث، عكس أجل أقرانه ممن تأثروا بالثقافة اليسارية التي أرسى أسسها مناضلون أو مثقفون عضويون لا يضعون مسافة معقولة بين الالتزام الأخلاقي تجاه القضايا التي يدافعون عنها، وضرورة التحليل العلمي، وقول الحقيقة للجميع، شعبا وسلطة، أمة ودولة، فردا وجماعة.
ربح المغرب مع 20 فبراير دخول عشرات الآلاف من الشباب المجال السياسي، ودخول مئات الآلاف منهم إلى لوائح الانتخابات بعدما كانوا يقاطعون ويسخرون من التصويت ومن الأحزاب. الحركية التي خرجت مع الربيع المغربي صالحت جزءا من الشباب مع السياسة بمفهومها النبيل، وحتى عندما توقف الشباب عن الخروج المادي إلى الشارع استمروا في النضال الافتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي بكل الروابط والجسور الموجودة بين الواقعي والافتراضي، كما أثبت الربيع المغربي، لكن هذا ليس كافيا لإحداث نقلة نوعية في الحقل السياسي.. نقلة تسحب اختصاص صناعة الخرائط الانتخابية من مطبخ وزارة الداخلية.. نقلة تجعل الشعب حقيقة لا مجازا.. نقلة تعطي الأغلبية حق تنصيب من يحكم، ومعاقبة من يلعب بمصير بلد كامل وشعب كامل.