بقلم : توفيق بو عشرين
ستسمعون قبل الانتخابات التشريعية المقبلة الكثير من الكلام والوعود والسب والقذف والاتهامات والاتهامات المضادة.. وسترون حروبا طاحنة بين الأحزاب ومراكز السلطة على كراسي البرلمان والحكومة، وستسمعون قصصا غريبة عن استمالة الناخبين والضحك على الذقون، وسترون أموالا كثيرة توزع على الجيوب المثقوبة، وستبعث الانتخابات أحزابا كثيرة من القبر، لكنكم لن تسمعوا ولن تروا الأشياء المفيدة والمهمة… لن تروا برامج انتخابية طموحة وواقعية، وتصدر عن رؤية أو إيديولوجيا أو تصور للدولة والمجتمع. لن تصادفوا، في الغالب، برنامجا انتخابيا مبنيا على تحليل دقيق لأوضاع البلد.. برنامجا مرقما ومذيلا بتواريخ ومواعيد وميزانيات… هذا ترف لا يشغل بال زعماء الأحزاب. 99٪ من الأحزاب المغربية لا برنامج لها، وهي مقتنعة بأنها تتبارى في الانتخابات على الكراسي لا على السياسات العمومية، وجلها يعتبر الأحزاب مكملا للديكور وليست قنوات حقيقية لتصريف إرادة الأمة، أما الذين لديهم تصور تقريبي لدور الحزب في الحكم فليست لديهم الكفاءات التي تسطر برامج تحل المشاكل الكبرى للدولة، والذي لديه بعض الكفاءات ليست لديه الإرادة المستقلة للدفاع عن برنامجه، وفي الأخير تلجأ الأحزاب في الحملة الانتخابية إلى «البوليميك»، أو المال، أو الوعود المعسولة، أو الاستعانة بالسلطة، أو تعليق كل مشاكل البلاد على التحكم.
المطلوب من الحكومة المقبلة، في زعمي، أن تقوم بثلاثة أشياء، وتمتنع عن القيام بثلاثة أشياء، وتجرب الاقتراب من ثلاثة أشياء، الباقي هي واجتهادها.
مطلوب من الحكومة المقبلة أن تضع سياسة عمومية لإنعاش الشغل، وإيجاد فرص عمل للشباب الحاصل على الشهادات، وألا تبقى الحكومة مسجونة في الوصفات التي ثبت فشلها. المطلوب هو الإبداع والتفكير غير التقليدي في المشاكل التقليدية، فالبطالة تنخر جسم أكثر من 22٪ من الشباب الحاصل على شهادات، وكل سنة يدخل إلى سوق الشغل 140 ألف مغربي، فيما البلاد لا توفر إلا حوالي 40 ألف منصب شغل.
ثاني شيء مطلوب من الحكومة المقبلة هو إصلاح المالية العمومية، وذلك باعتماد الحكامة الجيدة في صرف المال العام، وعدم تبذير الموارد القليلة الموجودة بين يدي الدولة، ثم توسيع قائمة المواطنين والمقاولات المشمولين بواجب دفع الضرائب، ومحاربة التهرب الضريبي بطرق ناعمة، ثم العمل، تحت عنوان إصلاح المالية العمومية، على تخفيض كتلة أجور الموظفين في القطاع العام التي تأكل أكثر من نصف مداخيل الدولة (تكلف أجور الموظفين حوالي 140 مليار درهم سنويا، في حين أن مداخيل الدولة الضريبية في حدود 260 مليار درهم سنويا)، وهذه الكتلة من الأجور تتجاوز المعدل العالمي الذي يجب أن تمثله كتلة الأجور من الناتج الداخلي الخام. ثالث شيء مطلوب من الحكومة المقبلة هو إصلاح حقيقي للتعليم، والاعتراف بأن الأزمة سببها الدولة أولا، ورجال ونساء التعليم ثانيا، والأسر ثالثا.. الدولة التي تركز مهمة حساسة وخطيرة في يد الوزارة بالعاصمة، ورجال ونساء التعليم الذين لا يحاسبون ولا يطورون أداءهم، ويختبئون وسط نقابات ريعية، والأسرة التي لا تتدخل في العملية التعليمية، ولا تشارك في مجالس الآباء، ولا تتابع عن قرب مسار أبنائها التعليمي (الطفل في المدرسة العمومية اليوم يكلف الدولة أكثر مما يكلفه التلميذ في أغلى المدارس الخاصة، ومع ذلك لا يحصل الأول على نصف جودة ما يحصل عليه الثاني). إذن، هناك خلل، فمن يملك شجاعة إعلانه وتحمل كلفة إصلاحه؟
ثلاثة قرارات يجب على الحكومة المقبلة ألا تقترب منها: أولا، يجب ألا تجعل من تعطيل الدستور عرفا، ويجب ألا تسمح بالإخلال ببنائه الهندسي في توزيع الصلاحيات تحت أي مبرر كان. احترام الدستور، الذي صوت عليه المغاربة، هو ضمانة للمستقبل، وخطوة نحو تحديث نظامنا السياسي العتيق. ثانيا، لا يجب على الحكومة المقبلة مراجعة قرارات الإصلاح التي قامت بها حكومة بنكيران، كإزالة الدعم عن المحروقات، وإصلاح صناديق التقاعد، فهذان إصلاحان استراتيجيان، ويجب ألا يدخلا إلى سوق البازار السياسي ومزايداته غير العقلانية. ثالثا، يجب على الحكومة المقبلة ألا ترفع الراية البيضاء أمام الفساد والريع والامتيازات غير المشروعة. الفساد وباء يزرع الحقد والكراهية في نفوس المحرومين، ويفقد الدولة مشروعيتها وثقة الداخل والخارج فيها.
الموضوعات التي يجب على الحكومة المقبلة أن تقترب منها، أي أن تهيئ المناخ المناسب لعلاجها في السنوات المقبلة هي: أولا، تغيير بنية الاقتصاد الخدماتي المغربي، لأنه اقتصاد هش ولا يوفر مناصب شغل كثيرة، ويركز الثروة في أيدٍ قليلة، وفوق هذا لا يخلق قيمة مضافة كبيرة. انظروا إلى الثلاثة الأغنياء الكبار في المملكة؛ الأول بنكي (بنجلون)، والثاني يبني السكن الاجتماعي (الصفريوي)، والثالث يوزع الغاز المدعوم (أخنوش)… كل هؤلاء جنوا أرباحا ضخمة من اقتصاد خدماتي وحجر السلطة دون أن يوفروا قيمة مضافة أو خبرة صناعية أو مناصب شغل كبيرة. ثانيا، على الحكومة المقبلة أن تقلص عدد المؤسسات والمقاولات العمومية المتضخمة التي لا تعود بالفائدة على الشعب (في المغرب 200 مؤسسة ومقاولة عمومية تتصرف في 182 مليار درهم سنويا، وجلها لا يقدم خدمة في المستوى، ولا مداخيل لخزينة الدولة، بل تصرف على نفسها وتعطي مديريها وحماتها عطاء من لا يخشى الفقر). يجب خوصصة جل المقاولات العمومية، وخروج الدولة من القطاعات التي يستطيع الخواص الاضطلاع بها تحت رقابة مؤسسات الحكامة والتقنين la régulation. ثالث موضوع يجب على الحكومة المقبلة الاقتراب منه هو إصلاح النظام الانتخابي، وجعله نظاما ديمقراطيا بدون أي وصف آخر. هذا سيساعد الأحزاب على إصلاح نفسها، وسيدفع بالأطر والكفاءات إلى التصالح مع السياسة، وسيوسع ثقة الناس في صناديق الاقتراع، وسيطرد التزوير والمال والأعيان من حلبة التنافس. (هناك ظاهرة عجيبة في المغرب، وهي أن الدستور أدخلت إليه إصلاحات جوهرية في حين أن النظام الانتخابي ظل حصنا منيعا ضد أي إصلاح، بل جرى أخيرا إفساد هذا النظام أكثر ودفع الناس إلى هجر لوائحه).