بقلم توفيق بو عشرين
بقدر ما كان خطاب الملك محمد السادس في القمة الخليجية المغربية واضحا وصريحا، فإنه بث الخوف في نفوس المغاربة الذين سمعوا لأول مرة رئيس الدولة يتحدث عن وجود مخطط لتقسيم المغرب، وعن ومؤامرات تستهدف استقراره ووحدته وشرعية وجوده في الصحراء.
من يتآمر على المغرب؟ ومن يخفي مخططا كاملا لتقسيمه وزرع الفتنة فيه، وسلخ جزء من ترابه عن كيانه؟ طبعا الملك محمد السادس لا يتحدث عن الجزائر في المقام الأول، فهذه الأخيرة أضعف وأوهن من أن تقود مخططا كبيرا وخطيرا ضد المغرب والدول العربية الأخرى، فرئيسها مريض وبلادها مريضة، وأكثر همومها منصبة حول الانقسام الحاصل وسط النخبة الحاكمة في الجزائر، وتداعيات انهيار أسعار النفط والغاز… نعم، الجزائر تحرك ملف الانفصال منذ 1975، لكنها لم تنجح سوى في إزعاج الرباط، وفي توقيف مسيرة الاندماج والتعاون بين دول المغرب العربي.. هذا هو أقصى ما يمكن أن تحققه.
إذن، من المبني للمجهول الذي تحدث عنه الملك في أول اجتماع للقمة المغربية الخليجية؟ الأمين العام للأمم المتحدة، الكوري بان كي مون؟ لا أعتقد، فهذا الأخير مجرد موظف، وهو ذاهب إلى التقاعد بعد أشهر قليلة، ورغم سوء الفهم الذي حصل معه بسبب انحيازه إلى طرف دون آخر في نزاع الصحراء، فهذا لا يجعل منه العدو الأول للمغرب.
إذن، من هي هذه القوة الخفية التي تزعج الجالس على العرش، وتدفعه إلى إلقاء خطاب ناري حول الطاولة الخليجية، ساعات قبل اجتماع باراك أوباما بالقادة الخليجيين المستائين جدا من سياسات البيت الأبيض تجاه الشرق الأوسط ومشاكله المعقدة.
الجواب عن السؤال المحير يوجد في هذه الفقرة من خطاب الملك: «هناك تحالفات جديدة قد تؤدي إلى التفرقة وإلى إعادة ترتيب أوراق المنطقة، وهي، في الحقيقة، محاولات لإشعال الفتنة وخلق فوضى جديدة لن تستثني أي بلد.. المغرب، ورغم حرصه على الحفاظ على علاقاته الاستراتيجية بحلفائه، توجه في الأشهر الأخيرة نحو تنويع شركائه، وفي هذا الإطار تندرج زيارتنا الناجحة لروسيا، كما نتوجه لإطلاق شراكات استراتيجية مع الهند وجمهورية الصين الشعبية التي سنقوم قريبا بزيارتها، فالمغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأحد».
من الذي يزعجه الاقتراب من روسيا والصين والهند والخروج من المحمية الغربية؟ إنها أمريكا. من المتهم بتشجيع الربيع العربي لخلق فوضى خلاقة وإعادة تقسيم المنطقة؟ إنها أمريكا. من المتهم بالاقتراب من إيران الشيعية لإرباك السعودية السنية، التي حملها أوباما المسؤولية المباشرة عن تصدير الراديكالية الدينية إلى العالم؟ إنها أمريكا. من أكثر الموظفين تأثيرا في ديوان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون؟ إنه الأمريكي جيفري فيلتمان، المستشار السياسي الأول لبان كي مون، ثم يتبعه كريستوفر روس، السفير الأمريكي السابق المكلف بملف الصحراء.
الرسالة واضحة، إذن محمد السادس «ينتفض» في وجه الإدارة الأمريكية التي تقف خلف بان كي مون، وخلف سياسات موظفي الأمم المتحدة الذين لا يشتغلون بعيدا عن توجهات واختيارات القوة الأعظم في العالم والأكثر تأثيرا في المبنى الزجاجي للأمم المتحدة في نيويورك… والملك يعرف أن أمريكا لا عدو دائم لها ولا صديق دائم لها، وأن مصالحها فقط هي الدائمة، وأن هذه القوة العظمى مفتوحة على تأثيرات داخلية وخارجية في قراراتها بشكل لا تعرفه باقي الدول أو القوى الكبرى، ولهذا، فالملك يبحث عن هوامش للمناورة أمام الفيل الأمريكي، وعن حلفاء جدد لتنويع شركائه، وتحسيس واشنطن بأن المغرب ليس في الجيب، وأنه ليس دولة يمكن أن تجرب فيها أي سياسة، وأن ملف الصحراء قضية شعب وليس قضية نظام أو قصر ملكي، وهذا لا يعني أن واشنطن صارت عدوا، كما أنها ليست صديقا يأمن الإنسان شوكه.
مرة كنت رفقة عدد من الصحافيين حول طاولة غداء السفيرة الأمريكية السابقة بالرباط، مارغريت تيتويلر.. وسألتها عن سر غموض الموقف الأمريكي من نزاع الصحراء، وعن وقوف واشنطن في الوسط، مرة تميل إلى الجزائر ومرة تؤيد المغرب، ابتسمت وقالت: «لا تنتظروا موقفا واضحا من أمريكا في هذا النزاع، فواشنطن لن تقول إن الصحراء مغربية، ولن تقول إن الانفصال في الصحراء هو الحل. أمريكا تشجع الأطراف على التوصل إلى حل إن هم رغبوا في ذلك وتحركوا نحوه».
عكس الدول الأوروبية التي لا تتغير سياستها الخارجية من حكومة إلى أخرى سوى بدرجة ٪30 أو أقل، فإن السياسة الخارجية في أمريكا تتغير بنسبة ٪70 مع مجيء كل إدارة، وفي بعض الأحيان بنسبة 90٪، كما حدث بين إدارة جورج بوش الابن الذي تدخل عسكريا في أفغانستان والعراق، وكان يهيئ لضرب إيران بعد تشديد الحصار عليها، وإدارة أوباما الذي سحب جيش بلاده من العراق وأفغانستان ورفض التدخل في سوريا، ورفع الحصار عن إيران وكوبا، وأعادهما إلى المجتمع الدولي، وقال إن أولوياته هي البطالة في الداخل والاهتمام بآسيا في الخارج، لأن مشاكل الشرق الأوسط معقدة وطويلة، ولن تحل في هذا العقد ولا في العقد المقبل.
هذه، إذن، هي هوية الصديق/العدو الذي تحدث عنه الملك في خطابه بالإشارة، أما عن قدرته على الوصول إلى أهدافه، فهذا لا يتوقف على من يخطط فحسب، بل كذلك على همة وحذر وذكاء المستهدَف، فليس كل ما تخطط له أمريكا تبلغه. 99٪ من أوراق الصحراء توجد في المغرب، ومستقبل النزاع يوجد في قرارات واختيارات العشر سنوات المقبلة.