بقلم : توفيق بو عشرين
لم يكن يتوقع أحد أن تكون نهاية ولاية هذه الحكومة سعيدة وهادئة وكأننا أمام حفل عرس ينتهي بالسلام على العروسين، والدعاء لهما بالرفاهة والبنين، لكن أكبر المتشائمين لم يتوقع أن تدخل أطراف من المحيط الملكي إلى قلب بولميك سياسي وإعلامي مع رئيس الحكومة، على بعد شهرين من تنظيم الانتخابات التشريعية، وتسرب ما سمته غضبا ملكيا على رئيس حكومة يشتغل معارضا نهاية كل أسبوع، بدعوى أن بنكيران تحدث عن وجود دولتين في المغرب؛ واحدة يقودها الملك محمد السادس والثانية مجهولة القيادة… هذا نقاش سياسي ودستوري موجود في المغرب منذ سنوات، وآخر وزير أول اشتكى من آثاره السلبية على تجربة الانتقال الديمقراطي هو عبد الرحمان اليوسفي، لكن في بروكسيل وليس في المغرب، وبعدما أنهى وظيفته في الوزارة وليس قبل ذلك، وبعدما أُنِهك حزبه وليس عندما كان في أوجه وعنفوانه، ولهذا، لم يكن لكلام اليوسفي من تأثير سياسي كبير، خاصة بعد دخول حزبه إلى حكومة جطو دون اعتبار لبلاغ المكتب السياسي للاتحاد، الذي أعلن أن هناك حالة شرود عن المنهجية الديمقراطية في قرار تعيين تقنوقراطي في الوزارة الأولى.
وجود أكثر من بنية للقرار في الدولة ليس اختراعا توصل إليه بنكيران في مختبر رئاسة الحكومة، هذه ظاهرة لازمت المغرب منذ الاستقلال، واسمها «ازدواجية السلطة»، حيث يتعايش الدستور المكتوب مع الدستور غير المكتوب، وتسير الانتخابات إلى جانب التعيينات، وتشتغل حكومات الشمس تحت وصاية حكومات الظل، وتخضع الصحافة للقانون المكتوب تارة، وللخطوط الحمراء تارة أخرى، وينطق القضاة بالأحكام وفق القانون مرة، ووفق مكالمات الهواتف أخرى، وهكذا، هناك مراكز قوى عدة في نظام سياسي تعرض لاهتزازات ديمقراطية أكثر من مرة، حيث لم تستوعب مؤسساته القانونية نفوذ وتأثير جهات عدة تدعي حماية العرش، فيما هي تحمي مصالحها ونفوذها وتأثيرها على القرار العمومي، دون تفويض شعبي، ودون منصب قانوني، ودون مسوغ دستوري.
الجديد الآن أن متغيرين استجدا على المملكة جعلا الهندسة المزدوجة للقرار في مأزق وأمام إشكالات غير مسبوقة. المستجد الأول هو دستور 2011 الذي خلق مؤسسة جديدة اسمها رئاسة الحكومة، وهذه المؤسسة أعطتها الوثيقة الدستورية، التي كتبت بمداد الحراك الشعبي، سلطا مهمة، ومركزا اعتباريا، ومسؤولية أمام الناخبين الذين صاروا مسيسين أكثر من السابق بفعل عوامل عدة، أحدها هو اتساع القول في السياسة عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي. والمستجد الثاني هو وجود حزب قوي يقوده شخص مثل بنكيران لا يتكلم لغة الخشب، ولا يصبر على الضربات التي يتلقاها من قبل الدولة الموازية التي تزعجها التجربة السياسية الحالية، لأنها تقلص من نفوذها وسلطاتها وامتيازاتها… هذا هو الجزء الأكبر من أسباب سوء الفهم هذا بين رئاسة الحكومة وأطراف في الدولة، أما الجزء الآخر فيتمثل في اقتراب موعد الانتخابات التشريعية، حيث تشتغل الاستراتيجيات المتناقضة، وتظهر الرهانات المتصارعة على من يحكم في الخمس سنوات القادمة، لكن، بالنظر إلى نتائج انتخابات شتنبر، وبالنظر إلى نتائج استطلاعات الرأي، فإن السؤال الآن هو: هل ستتحمل الدولة خمس سنوات أخرى من التعايش مع حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الإله بنكيران، أم لا؟
هل انتهى دور بنكيران وحزبه في حفظ السلم الاجتماعي، وتوسيع مشاركة الشباب في الحياة السياسية، والقيام بالإصلاحات الصعبة، ولعب دور «البارشوك السياسي» تجاه الشارع؟ الجواب الأول هو لا، والجواب الثاني هو أن الملكية ربحت مع بنكيران ما لم تربحه مع غيره، والجواب الثالث أن الرجوع إلى الوراء مكلف جدا، وأن هندسة الخريطة المقبلة خارج الإرادة الشعبية ونتائج الانتخابات خيار خطير على الدولة وعلى المجتمع، فمادام حزب العدالة والتنمية يشتغل وفق الدستور، ومادام المغاربة يصوتون له، فإن إزاحته، بطرق ناعمة أو خشنة، سيقضي على التجربة الديمقراطية وليس على بنكيران وحزبه، فهؤلاء تعايشوا مع مقاعد المعارضة، ويعرفون كيف يصرفون خطاباتهم وغضبهم في قاع المجتمع. المشكل في التجربة الديمقراطية التي ستتضرر مثلما تضررت تجربة التناوب الذي اختنق سنة 2002.. حزب الأصالة والمعاصرة يصلح للتشويش وللبوليميك، لكنه لا يشكل بديلا سياسيا الآن، لأن الجميع يعرف أنه يفتقر إلى عقد ميلاد شرعي، وأنه آلة انتخابية مملوءة بالأعيان والمصالح تدور بمساعدة أطراف في الإدارة، وبالتالي، لا يمكن لأحد أن يعول عليه لقيادة المرحلة المقبلة، بصعوباتها وتحدياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، في محيط إقليمي ودولي يغلي بالحروب والفتن والمؤامرات.
الذين يستعجلون ذهاب بنكيران قبل أن تقول صناديق الاقتراع كلمتها، مثل ذلك الذي يؤدي ثمن فاتورة من جيب الغير، والمثل يقول: «ما أسهل الدفع من جيب الغير».