توفيق بوعشرين
واجه الملك محمد السادس، طيلة 16 سنة التي قضاها فوق عرش المغرب، ثلاثة امتحانات كبرى -وإلا فإن كل يوم يقضيه ملك في الحكم هو امتحان- واجه الشاب، الذي جاء إلى الحكم من ولاية العهد صفحة بيضاء، تحدي ملء الكرسي الكبير الذي تركه ملك داهية مثل الحسن الثاني حكم 38 سنة، أي ثاني أطول مدة بعد جده المولى إسماعيل، ومات على فراشه في قصره بعد أن واجه كل أنواع المؤامرات المدنية والعسكرية التي كان هدفها إسقاطه عن عرشه.
يرجع الفضل في بناء المغرب الحديث إلى رجلين، الأول هو المقيم العام اليوطي الذي أخرج المملكة من عباءة القرون الوسطى إلى معمار الدولة الحديثة، وإن كانت تحت وصاية الاستعمار، والرجل الثاني هو الحسن الثاني الذي بنى جيشا وإدارة ووضع دستورا، وحجز للمغرب مقعدا في منصة العلاقات الدولية. صحيح أنه لم يكن في نظام حكمه مكان الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنه كان يعرف أن مآل البلاد أن تواجه استحقاق الانتقال الديمقراطي ذات يوم، ويسجل له أنه في السنوات الأخيرة من حكمه ساهم في انفتاح المغرب على ورش الإصلاحات السياسية. محمد السادس كان عليه أن يوقف العودة المتكررة في الداخل والخارج للمقارنة بينه وبين أبيه. قال مرة لمادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة: «كيف لي أن أقنعكم بالتوقف عن مقارنتي بصورة أبي الموضوعة ورائي؟». لم يستغرق الملك الجديد وقتا طويلا ليجد الجواب عن هذا السؤال. الجواب كان هو القطيعة في ظل الاستمرارية. نزل الملك الشاب إلى الشارع وأصبح يلتقي كل يوم شعبه. أقال وزير الداخلية سيئ السمعة إدريس البصري. دعا إلى طَي صفحة انتهاكات حقوق الإنسان في عهد والده. كثف من أعمال الخير والإحسان. أعطى المرأة حقوقا كثيرة، وأصبح همه ترقيع «دربالة» المغرب المليئة بالفقر والهشاشة والحرمان، حتى أصبح الناس يرددون: «كان المغاربة يخافون الحسن الثاني والآن بدؤوا يخافون على محمد السادس». هكذا نجح الجالس حديثا على العرش في تخطي الاختبار الأول.. اختبار ملء الفراغ الذي تركه الحسن الثاني.
الاختبار الثاني الذي واجهه الملك محمد السادس هو خطر الإرهاب الذي ضرب بقوة عشية 16 ماي 2003، معلنا دخول مملكة محمد السادس إلى الحرب العالمية على الإرهاب. كانت صدمة قوية أن يرى المغاربة الإرهاب بالعين المجردة.. كانوا في السابق يسمعون عن العمليات الانتحارية والأحزمة المفخخة والأشلاء المبعثرة، بعد 16 ماي بدؤوا يرونها في شوارعهم ونشرات أخبارهم المحلية. أشياء كثيرة تغيرت في عقل وأولويات الدولة ورئيسها. مرة أخرى لم يتأخر الملك الشاب في بناء ذراع أمني واستخباراتي قوي لمواجهة الخلايا الإرهابية العابرة للحدود وللفكر ولسيادة الدول. وضع رجلا عسكريا يجر خبرة أمنية كبيرة على رأس جهاز الأمن.. إنه حميدو لعنيكري الذي تصرف بقوة وبطش كبيرين في الأشهر التي أعقبت فاجعة 16 ماي، ووضع رهن إشارة أجهزة الأمن المغربية، لأول مرة في تاريخها، إمكانات مالية وبشرية ولوجستيكية كبيرة، بالإضافة إلى توثيق علاقتها بأجهزة الأمن العالمية. ولأن محمد السادس ملك ورث عن أبيه الشرعية الدينية، فإنه استعملها لإعادة مراقبة الحقل الديني وضبطه، والتحكم في القيم التي ينتجها هذا الحقل, خاصة في بيئة فقيرة وأمية وهشة يسهل فيها اقتراب النار من الحطب.
كانت هناك دعوات إلى وضع الإسلاميين كلهم في سلة واحدة، والتعامل معهم بشعار ‘‘ليس في القنافذ أملس’’. وضع على مكتب الملك قرار حل حزب العدالة والتنمية، وكان مرتقبا أن يعلن محمد السادس ذلك في الخطاب الذي أعقب أحداث 16 ماي، لكن الملك تريث في اتخاذ القرار، وأجل الخطاب 24 ساعة بعث خلالها وزير أوقافه إلى قيادة «البي جي دي» الذين انحنوا للعاصفة، وقبلوا تحذيرات أمير المؤمنين، وأدلوا بالتوضيحات الكافية عن عدم صلتهم بالإرهاب فكرا وثقافة وسلوكا، وهكذا مرت العاصفة وخرج المغرب قويا من الحرب على الإرهاب، وإن كانت صفحة حقوق الإنسان قد مست من جديد من خلال عودة التعذيب والاختطاف والتجاوزات التي اعترف بوقوعها الملك بنفسه في حوار شهير مع «إلباييس».
الاختبار الثالث الذي واجهه محمد السادس كان هو زلزال الربيع العربي الذي ضرب المنطقة سنة 2011، وأسفر عن سقوط بنعلي في تونس ومبارك في مصر والقذافي في ليبيا وصالح في اليمن وترنح الأسد في سوريا والمالكي في بغداد، وخوف في الخليج وباقي العالم العربي. استيقظ المغرب صباح يوم ممطر في 20 فبراير ليجد أن التظاهرات السلمية خرجت في 54 مدينة وعمالة وإقليما تطالب بالإصلاح والملكية البرلمانية، ومحاربة الفساد والاستبداد ورموزهما، ماذا حدث؟ من حرض مئات الآلاف من الشباب الذين هبوا إلى الشارع في يوم واحد بلا تأطير من حزب أو نقابة أو جماعة؟ إنه الجيل الذي فتح عينه على حكم محمد السادس هو نفسه الذي خرج إلى الشارع يطالب بإصلاحات سياسية ودستورية عميقة.. إنها صدمة وفرصة للتغيير في الوقت نفسه.
مرة أخرى لم يقفل محمد السادس باب قصره على نفسه، ويترك رجال الأمن يقومون بالمهمة التي يعرفونها. كان يحس بذكائه السياسي وذاكرة الحكم في سلالته بأن الأمر يحتاج إلى معالجة سياسية. هكذا أعطى أوامره لأجهزة الدولة أن تترك للناس الحرية في التظاهر، وألا يتدخلوا إلا إذا استدعت الضرورة الملحة ذلك، ثم تقدم بوعده التاريخي للأمة في خطاب 9 مارس بإصلاحات عميقة في ظل الاستقرار، ثم توالت المبادرات: دستور جديد أعاد شيئا من التوازن بين السلط. برلمان جديد خرج من رحم انتخابات هي الأقل سوءا في كل تاريخ المغرب، ثم حكومة على رأسها حزب كان في المعارضة وكان شبه مغضوب عليه… قبلت الطبقة الوسطى التي كانت أكبر داعم لحركة 20 فبراير بهذه الصفقة، وتراجع الاحتجاج في الشارع، وتحول الاهتمام إلى حصيلة الحكومة وماذا فعلت وماذا لم تفعل، بعد أن كانت الحياة السياسية تدور حول أنشطة المحيطين بالملك، وحول قراراتهم وتجارتهم والأحزاب القريبة منهم.
الآن بعد مرور أربع سنوات يبدو أن الملكية استعادت زمام المبادرة بعد أن خرجت سالمة من أحداث الربيع العربي الذي تحول إلى خريف. نعم كسب المغرب رهان الاستقرار في محيط مضطرب تنهار فيه الدول وليس الأنظمة فحسب، لكن شكل الملكية لم يحسم بعد، فهناك من يدفع في اتجاه العودة إلى الطابع التنفيذي، وهناك من ينصح بالاتجاه التدريجي نحو الشكل البرلماني، ويبدو أن الأمور لم تحسم بعد بخصوص ترسيم حدود السلطة التي ستتحرك فيها الملكية، فهناك كثيرون يلحون على القصر بضرورة استعادة السلطة التي تخلى عنها طوعا في الدستور الجديد، بدعوى ضعف النخب السياسية وقلة تجربة الحكومة، وضرورات الفعالية في حماية النموذج المغربي. كاتب هذه السطور مع خيار السير التدريجي نحو الملكية البرلمانية لأنها الجواب الوحيد الموجود على الطاولة إذا نحن رغبنا في خروج المغرب نهائيا من النشرة الجوية العربية، حتى لا يعود معنيا بربيع ولا خريف ولا شتاء ولا قحط العرب. يجب نقل الصراع السياسي في المغرب من شكل النظام وصلاحياته إلى نوع الحكامة وبرامج التنمية ومتطلبات الصعود إلى نادي الديمقراطيات المتقدمة. النخب السياسة بكل ألوانها غير قادرة على تحمل هذا الرهان الآن، ويبقى على الملكية أن قوم بالدور الاستراتيجي والتاريخي لوحدها، أي أن تحدث نفسها بنفسها، وأن تلجأ إلى خيار التقليص الذاتي للسلطة لما فيه مصلحة الجميع وأمان الجميع. قادة تاريخيون كثيرون لعبوا هذا الدور حتى عندما كانت شعوبهم غير مهيأة لذلك. يقول مثل إنجليزي: «ليست القوة أن تكسر لوحة شوكولاتة بيد واحدة.. القوة أن تكسر لوحة الشوكولاتة وتأكل قطعة صغيرة، وتقاوم إغراء ابتلاع العلبة بكاملها».