بقلم : توفيق بو عشرين
انتهت سلسلة «كبور والحبيب» مع نهاية رمضان. على مدى 29 حلقة أخذ حسن الفذ جمهوره الكبير، من البادية إلى المدينة، من ثقافة إلى ثقافة، ومن أسلوب عيش إلى آخر، ومن ديكور إلى آخر، ومن سيناريو إلى آخر، لكنه احتفظ بجوهر «كبور»، المغربي الأناني والمحتال الذي لا يفكر إلا في نفسه وجيبه ومصلحته ولذته، والذي لا يقيم وزنا للأخلاق… والذي تدفعه نرجسيته إلى عدم اقتسام أي شيء مع الآخر، لا مال، لا عواطف، لا ثقة، لا ثقافة، ولا حسن جوار، ولا تفكير في المصلحة العامة.
كبور إنسان يعيش خارج إنسانيته، وحتى صديقه حبيب، الخجول والانطوائي ضعيف الشخصية، الذي يعيش في ظل هيمنة كبور، لا يسلم من جشع واستغلال لهذا الأخير، وغالبا ما يكون الحبيب تابعا لهذا «القائد» الذي لا يملك من مقومات القيادة إلا الاحتيال و«التنوعير»، والجرأة على خرق القانون، والتلاعب بعقول الناس، والسفسطة وأعمال «السحر».. سحر الكلمات وسحر البلاغة، وسحر الجرأة، هذا هو رصيد كبور في الحياة. كبور هذا يمثل شريحة في المجتمع بكل طبقاته، فالفقراء لهم «كبورهم»، والأغنياء لهم «كبورهم» ومتوسطو الحال لهم «كبورهم»… المتعلمون والأميون والسياسيون والنقابيون والأساتذة والطلبة والبرلمانيون والسجناء والمرأة والرجل والموظفون والعاطلون، كل واحد من هؤلاء له «كبور» يمثله، ويجسد أسلوب عيشه وطريقة نصبه، ومنهجية استغلاله، وكلما تطورت الفئة الاجتماعية التي يخرج منها كبور، تطورت أساليبها في الغش والسرقة والنصب والتلاعب والخداع والأنانية والإثراء غير المشروع. الفرق يكمن فقط في الكلفة التي يعيش بها كبور الفقير، الجاهل، الساكن في سطح العمارة، وكبور الغني المتعلم صاحب السلطة الذي يعيش في فيلا أو إقامة فاخرة، وبين يديه سلطة أو مال أو جاه.
لماذا حظيت هذه السلسلة بنسبة مشاهدة مرتفعة في رمضان هذا العام كما في العام الماضي؟
الجواب عن هذا السؤال بدقة يحتاج إلى دراسة علمية، وإلى إحصاءات واستطلاعات رأي دقيقة، لكن كانطباع صحافي، ومن خلال متابعة ردود فعل الجمهور في شبكات التواصل الاجتماعي وتحليلها، يمكن القول إن عاملين أساسيين وراء نجاح هذه السلسلة؛ أولا هناك شخصيات أبطالها، وفي مقدمتهم الفنان حسن الفذ الذي حفر له اسما مميزا في صخرة الفن الكوميدي المعطوب في بلادنا. الفذ فنان موهوب ومثقف، وله ذكاء خاص في اقتناص قفشات السخرية الاجتماعية من واقعنا المعقد، وانتزاع الضحك من نفوس المغاربة الذين يحبون، كباقي الشعوب، النكتة والسخرية حتى من نفسهم. لقد أثبتت دراسات علمية عدة أن السخرية تحفز التفكير الإبداعي، وأن رسائلها تصل بسرعة وفعالية إلى وجدان الناس. لقد وضعت جامعة كاليفورنيا تجربة استهدفت مجموعتين من الطلبة، حيث أرسلت إليهما رسالة أخلاقية واحدة؛ الأولى بلغة خطابية عادية، والثانية بلغة كوميدية ساخرة، ووصلت إلى نتيجة مذهلة، وهي أن الرسالة الساخرة كانت مؤثرة جدا أكثر من الرسالة العادية، وأن السخرية التي صاحبت الرسالة كانت باعثة على الاهتمام أكثر، والتأثير في نفوس المتلقين أكثر من الرسالة العادية.
السبب الثاني في نجاح سلسلة «كبور والحبيب»، وقبلها «الكوبل»، لدى فئات واسعة من متتبعي التلفزيون وقناة يوتيوب، هو شخصية كبور المتخيلة والواقعية في الوقت نفسه، وهي شخصية تخترق أفقيا مجتمعنا، وتحظى بتمثيلية مهمة في كل طبقات المجتمع، وحتى وإن كانت السلسلة قد بالغت في تصوير «ألاعيب» كبور لضرورات العمل الدرامي، ولأن المبالغة جزء من السخرية والكاريكاتير، وهي بمثابة الملح في الطعام، فإن المغاربة وجدوا في كبور مرآة لواقعهم بهذا الشكل أو ذاك.. مشاكل السلسلة الفكاهية هي مشاكلهم، ولغتها هي لغتهم، وانحرافات كبور هي انحرافات بعضهم، وضحايا كبور هم ضحاياهم، وحتى وسائل كبور في النصب على الخلق قريبة من وسائل من يشبهون كبور في الحياة الواقعية: «تمسكن حتى تتمكن»، و«اكذب اكذب حتى يغلب كذبك صدقهم»، و«صاحبك هو جيبك»، و«نحن أبناء اليوم والغد غير موجود»، وفي النهاية كل الطرق تؤدي إلى روما، والغاية تبرر الوسيلة، وذاكرة الناس مثل ذاكرة سمكة، و«اللي لقا شي هبيل وما ضحكش عليه راه يتحاسب»… هذا هو كتاب كبور في الحياة.
في واحدة من اللقطات المعبرة والحقيقية، يعمد كبور إلى سرقة حاوية للنفايات (طارو مخصص لجمع الأزبال) وضعتها الجماعة أو الشركة في الحي لتسهيل جمع القمامة والحفاظ على نظافة الشارع، فيسأل الحبيب رفيقه كبور: «ماذا سنفعل بهاد الطارو؟»، فيجيبه كبور بسرعة: «الله يهديك، نأخذه أولا ونفكر في ماذا سنصنع به ثانيا». أليس الأفضل أن نطرح نحن هذا السؤال الآن عوض أن يطرحه أحد آخر بدلا منا؟ جشع كبور وعدوانيته تجاه الملك العمومي، والرغبة في تملك المشترك دفعته إلى سرقة شيء لا يعرف ماذا سيصنع به، ولا في أي شيء سيفيده، لكن الشيء المثير أن الحبيب لا يعترض على سلوك كبور، بل هو فقط يسأل عن استعمالات المسروق… الحبيب يجسد سلبية قطاعات واسعة من الرأي العام في بلادنا التي لا تعترض ولا تعارض ولا تشجب ولا تتحرك لمنع السارق من أخذ البلد إلى غرفته، والمال العام إلى حسابه، والأرض المشتركة إلى عقاره، والسلطة الشرعية إلى ضيعته.
في الختام قد يكون من المفيد لفت انتباه حسن الفذ إلى آمرين؛ الأول هو أن يقتصد في استهلاك اسمه وصورته وشهرته في صناعة الإعلانات، فإذا كانت هذه الأخيرة ضرورية لحياة الفنان في بلاد لا يدر فيها الفن ما به يسد الإنسان حاجاته، فإن الفذ، وأمام نجاحاته المستحقة، قد تجاوز هذه المرحلة، وصار له اسم فني وموقع اعتباري يجب أن يضرب له حسابا، وألا يضع هذا الاسم بحمولته الرمزية، على طول السنة، رهن الحملات التجارية. الملاحظة الثانية هي التساؤل عن الهروب المتعمد لحسن الفذ من السياسة ومن نقد السلطة، والاكتفاء بنقد المجتمع. طبعا، لكل فنان اختياراته، لكن للجمهور أيضا متطلباته. كل الفنانين العالمين يصوبون سلاح السخرية تجاه السلطة لنزع الهيبة والهالة التي تحيط بها نفسها، وتمنع البسطاء من الاقتراب من نقدها والاعتراض عليها عندما تتجاوز حدودها وتخرج عن وظيفتها…