الحديث في السياسة مثل الكلام في الجغرافيا، لا بد من وضع خريطة أمام الجميع ليصبح للكلام معنى، وللرأي مستند، وللتحليل أعمدة يرتكز عليها… ماذا يوجد على خريطة المشهد السياسي الحالي من حقائق ومتغيرات وتحولات؟ لنعرض بعض هذه التضاريس بسرعة:
لأول مرة في المغرب يعجز رئيس حكومة معين من قبل الملك، وحائز شرعية سياسية قوية من صناديق الاقتراع، عن العثور على أغلبية بين أحزاب فقدت تماما أي استقلال في القرار، وهي تعرض نفسها الآن إلى إهانة ما بعدها إهانة.
لأول مرة في تاريخ المغرب يحصل حزب سياسي على حوالي ثلث مقاعد مجلس النواب، وعلى مليوني صوت في اقتراع شبه مفتوح، وفي نظام انتخابي معقد يعاقب الأحزاب الكبيرة، ويتعمد بلقنة الخريطة السياسية.
لأول مرة في تاريخ المغرب تضع الدولة إطارا مسبقا لنتائج الاقتراع، وتكلف وزارة الداخلية بالوقوف على هذا المخطط وتطبيقه في أرض الواقع بكل الوسائل المتاحة، بما فيها استعمال الوسائل التقليدية للتأثير على الناخبين، فتخرج نتائج صندوق الاقتراع مناقضة للمخطط الأول، ويفوز الحزب «غير المرحب به» بالمرتبة الأولى.
لأول مرة تصنع الدولة حزبها، وتستثمر فيه الغالي والنفيس على مدى ثماني سنوات، وعندما تحتاج إليه لا تجده، بل، أكثر من هذا، يصير عبئا عليها لا تعرف كيف تتخلص منه.
لأول مرة في تاريخ المغرب يخرج رئيس حكومة ليرسم لـ«التحكم» صورة واضحة أمام الرأي العام، ويتحدث مع المواطنين عن وجود دولتين في المغرب، وعن ازدواجية القرار في المملكة الشريفة، ويصارحهم بلغة غير خشبية عن أعطاب نظامهم السياسي، وعن وصفة الإصلاح في ظل الاستقرار.
لأول مرة يفشل إعلام الدولة السافر والمقنع في التأثير على حزب سياسي تعرض، طيلة خمس سنوات، لقصف مكثف من مدافع التلفزات الرسمية، والمواقع الممولة بالمال العام، والصحف الصفراء، وأشباه المطبوعات التي ما تركت كذبة لم تطلقها، ولا ملفا أخلاقيا لم تنبش فيه، بل وصل الأمر إلى غرف النوم، ومحادثات الهاتف المشمولة دستوريا بالسرية، ومع ذلك، حصل الحزب المستهدف على أعلى نسبة من الأصوات، وحصلت الرموز التي جرى الاعتداء على حرمتها على نتائج مبهرة في الاقتراع (قائمة بوليف في طنجة حصلت على 60 ألف صوت، ولائحة عبد الله بوانو في مكناس حصلت على 50 ألف صوت، ولائحة عزيز الرباح حصلت في القنيطرة على… ولائحة محمد يتيم في البيضاء حصلت على …). هذا له معنى واحد.. الناخب لا يصدق أبواق الدعاية السوداء، والمغربي يرفض الضرب تحت الحزام. الباقي سنرجع إليه فيما بعد.
لأول مرة في المغرب صار لحوالي 10 ملايين مغربي «مكبر صوت» من خلال حسابات في موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، يتواصل من خلالها الأفراد، ويعبرون عن رأيهم في كل شيء، وينشئون لأنفسهم هويات جديدة خارج العائلة والقبيلة والتقاليد والأعراف، وبعيدا عن الدولة ورقابتها، والمجتمع إكراهاته. هؤلاء ليسوا شعبا افتراضيا، بل هم مواطنون واقعيون يخرجون، بين الحين والآخر، من حواسيبهم إلى الشارع، ويؤثرون في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي 2011 استطاعوا أن يغيروا الدستور وتركيبة الحكم، وهو الأمر الذي عجزت عنه الأحزاب الكبيرة والنقابات العريقة.
لأول مرة صار سكان المدن في المغرب أكبر من سكان القرى، وأصبح المدينيون يمثلون ثلثي ساكنة المغرب، ولم يبق في البوادي إلا الثلث، ولهذا، يمكن القول إن أطروحة «ريمي لوفو» التي تقول: «إن البادية تشكل خزان السلطوية الكبير في المغرب».. أطروحة ذابت أو تكاد، حيث أصبحت للمدن الكلمة الأولى في السياسة، ومعها ظهر التصويت السياسي الصريح يوم لاقتراع، وهذا ما يفسر الحجم الكبير من الأصوات الذي حصل عليه pjd رغم أن حصيلته الاقتصادية والاجتماعية كانت متواضعة.
لأول مرة في المغرب يخرج مئات الآلاف للتظاهر في الشارع لأسباب غير «خبزية»، رأينا ذلك أخيرا في التظاهرات التي اجتاحت 20 مدينة في المغرب عقب وفاة محسن فكري في الحسيمة (تظاهرات الكرامة)، ورأينا ذلك في الاحتجاجات التي خرجت إلى الشارع عقب قرار العفو عن البيدوفيل كالفان، ورأينا ذلك بوضوح صباح 20 فبراير 2011 عندما هبت «الجماهير» في 54 مدينة تنادي بالملكية البرلمانية والإصلاحات الدستورية وبمخطط لمحاربة الفساد. في كل هذه المناسبات كان المواطنون يستعملون سلاح الاحتجاج لأسباب سياسية وأخلاقية، وهذا يؤشر على تطور الوعي لدى فئات واسعة من المجتمع، ويؤشر، ثانيا، على انهيار جدار الخوف في نفوس المواطنين من بطش السلطة.
لأول مرة نرى أن الملكية تحاول أن تبتعد عن المخزن، أو لنقل عن النظام السلطوي الذي يتمتع بشبه استقلال ذاتي عن كل الفاعلين بما فيهم القصر نفسه. لقد رأينا الملك، مثلا، ينحاز إلى جزء من مطالب الشارع في التاسع من مارس 2011، ويقدم تنازلات من سلطاته عِوَض أن يرسل دباباته إلى الشارع، ورأيناه يصلح أخطاء العفو عن كالفان، ويسحب ظهيرا شريفا، ويستقبل عائلات الضحايا لجبر ضررهم. ورأينا الجالس على العرش يحترم نتائج الاقتراع مرتين في 2011 و2016، ويعين بنكيران رئيسا للحكومة، بغض النظر عن رأيه فيه وتقييمه لأسلوبه، ورأيناه يصلح أخطاء الدولة في الحسيمة، ويبعث من يعزي باسم الملك، ورأيناه يبتعد، في أكثر من مرة، عن المنطق السلطوي لنظامه، وهذا أمر لم يكن جاريا في عهد والده الراحل الحسن الثاني.
هذه قائمة قصيرة من التحولات التي يعرفها المغرب، يمكن الاختلاف في تأويل دلالاتها ومعانيها ونتائجها، لكن لا يمكن الاختلاف حول وجودها، لهذا، أملي أن يضع مهندسو السياسة في بلدي هذه القائمة أمامهم وهم يخططون لتدبير أزمة تشكيل الحكومة الحالية، وألا يسقطوا في أعراض مرض نكران الواقع، المعروف في التحليل النفسي باسم déni de réalité، وهو مرض يمنع صاحبه من رؤية الواقع كما هو.