بقلم - توفيق بو عشرين
عرت أزمة حراك الريف الذي بدأ جهويا وتحول وطنيا، تناقضات كثيرة في بلادنا، في السياسة والقانون والإدارة والإعلام والثقافة والأمن والنموذج الاقتصادي والاجتماعي المتبع منذ الاستقلال، وإلى اليوم..
لنعيد تركيب صورة هذا الحراك من هذه الزاوية التي تُظهر اختلالات عميقة في البلد، الناتجة عن الهوة التي تكبر بين المجتمع والدولة، بين القانون والواقع، بين النخب والشعب، بين الشباب والشيوخ، بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد، بين المؤسسات والممارسات… والبداية من التهم التي وجهت لأبناء الريف، والأحكام القاسية التي صدرت في حقهم باستعمال فصول في القانون الجنائي المغربي تتحدث عن جرائم فضفاضة (زعزعة ولاء المواطنين للدولة)، عن تهم يصعب إثباتها (المس بأمن الدولة الداخلي)، في الوقت الذي يتظاهر السكان سلميا وعلنيا، وبملف مطلبي واضح ليس فيه لا ثورة على النظام، ولا دعوة إلى إسقاط المؤسسات، ولا تحريض على الانفصال. ولهذا، المغاربة اليوم، وبغض النظر عن أية تفاصيل وحيثيات لا يفهمون كيف يحاكم المخزن شبابا خرجوا للمطالبة بجامعة ومستشفى ووظيفة وطريق يفك عنهم العزلة وثمن معقول للسردين في سوق السمك، ثم يكون مصيرهم السجن، حتى إن شابا منهم أحيل على محكمة الإرهاب، وهو معروف ببعده عن فكر الإرهاب. أول شرط ليكون القانون قانونا، هو أن يعبر عن الواقع وأن يترجم قناعات المجتمع وثقافته وقيمه وحقوقه، هذا ما يعطي للنص القانوني هيبة وقبولا ومشروعية بين الناس، وإلا فإننا أمام قانون المتغلب، قانون القوة وليس قوة القانون…
أظهر حراك الريف أن النخب الحزبية والنقابية والحكومية والإدارية في واد والمجتمع في واد آخر، ولا جسور بين الاثنين، ولا لغة مشتركة، ولا فهم متبادل، ولا وسطاء موثوقين، كل واحد يقف في ضفة مقابل الآخر. النخب خائفة من المتظاهرين متشككة في نواياهم وَجِلة من مطالبهم ومآل حراكهم، والشباب لا يثقون في نخبهم ويحتقرون الأحزاب ويطلقون عليها الدكاكين السياسية ولا يرغبون في التفاوض مع أحد سوى مع القصر، اعتقادا منهم أنه وحده الذي في يده مفاتيح الحل والعقد وأن المؤسسات (البرلمان والحكومة والقضاء ومجالس التمثيل المحلي والجهوي..)، كلها واجهات فارغة ومؤسسات بلا روح ولا فعالية ولا قدرة على حل المشاكل، فما بالك حل الأزمات…
أظهر حراك الريف عجزا سياسيا (déficits politique) كبيرا في المغرب، حيث لم تجد الدولة حكومة تدير الأزمة، وتجد لها حلا، ولا وجدت محاورا لسكان الريف يسمع منهم ويقنعهم بالرجوع إلى بيوتهم، في انتظار الاستجابة لمطالبهم، فماذا فعلت الدولة؟ أعطت الملف إلى البوليس والدرك والنيابة العامة والقضاة، وطلبت منهم أن يحلوا مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية بواسطة القانون الجنائي! حتى بدون سياسة جنائية، يضعها وزير العدل والحريات الذي لم تعد له من سلطة على النيابة العامة، فماذا وقع؟ ازدادت حرارة الأزمة، وانتظرنا سبعة أشهر لكي يأتي الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون من باريس ليقول لنا إن ملككم قلق من حراك الريف، ومتفهم لمطالبه، وإنه يريد تهدئة الوضع لا تصعيده… نعم، الوافد الجديد على قصر الإيليزيه هو الذي يخبرنا بكل هذا وليس أحدا سواه…
أظهر حراك الريف الفرق الشاسع بين عقلية الإعلام التقليدي للدولة ومن يدور في فلكها، وذهنية الإعلام الجديد والرقمي منه تحديدا، حيث أظهر الأول عجزا كبيرا عن ملاحقة الأحداث وسلوكا غير مهني وغير أخلاقي عصف بمصداقيته، إن كانت له مصداقية أصلا، خاصة بعدما لجأ تلفزيون العرايشي إلى فبركة صور عنف وإحراق لممتلكات خاصة وعامة لا علاقة لها بحراك الريف، في الوقت الذي كان الإعلام الرقمي ينقل المظاهرات والخطب والشعارات مباشرة عبر تقنية live على الفايسبوك، ناهيك عن ملايين المدونين الذين يتفاعلون في الفضاء الأزرق بكل حرية وتلقائية ودون قيود، كما أن حراك الريف عرى عجز الأحزاب والنقابات والحكومة والبرلمان، كما عرى أيضا تخلف الإعلام ولا مهنية الصحافة التي تتبع للسلطة وتجعل من نفسها صدى لخطابها، ورماح صدئة لانكشاريتها التي روجت لنظرية المؤامرة والانفصال والعمالة، وهي تغطي أو تعري عن فقرها الأخلاقي والمهني… تحول “اليوتوب” إلى التلفزيون الأول للمغاربة، وأصبح الـ”فايسبوك” المصدر الأول للمعلومات، وأضحت المواقع الإلكترونية الجريدة الاولى للرأي العام، على ما في ذلك من تجاوزات ومخاطر ناتجة عن تغييب مصفاة المهنية التي تقوم بها الصحافة كوسيط بين الأحداث والقراء وبين الأخبار والملتقي…
لا وسطاء لا سياسة لا إعلام لا ثقة لا إدارة لا حكومة لا تمثيلية لا تواصل، لا فهم عميق لحراك الشباب… كل هذا قاد إلى الأزمة ووجد الجميع نفسه في ورطة لا يعرف كيف يخرج منها… فجرى اللجوء إلى الحل السهل المتمثل في إدخال 100 شاب السجن، وإعلان شبه حالة استثناء في الحسيمة، وانتظار مناظرة إلياس العماري في طنجة.. هل هناك عبث أكثر من هذا…