بقلم : توفيق بو عشرين
الأزمات في السياسة مثل الجروح في جسم الإنسان، كلما تأخر علاجها تفاقمت خطورتها، وكلما ظلت مفتوحة تقيحت، هذا ما يجري الآن مع أزمة تشكيل الحكومة الثانية لبنكيران، والتي دخلت يومها الواحد والستين، وكأن البلاد تجرب الانتخابات لأول مرة، أو لا خبرة لها في تدبير الائتلافات الحكومية!
علاقات الأحزاب تزداد سوءا بفعل طول الأزمة، إلى درجة أن «حشيان الهضرة» وصل إلى المجال الدبلوماسي، وأصبحت وزارة الخارجية والتعاون ساحة للقصف السياسي والإعلامي، ولا شك أن الراحل أحمد بلافريج، مؤسس الدبلوماسية المغربية، يتقلب في قبره وهو يرى «الفعفاع» يأتي على ما بقي في الخارجية من احترام وهيبة، ويستغل سوء فهم بسيطا بين رئيس الحكومة وسفارة روسيا لكي ينفخ في الحادث، ويركب عليه للتقليل من قيمة ثاني مؤسسة في البلاد، ولهذا، كان السفير الروسي بالرباط أذكى من مزوار ومن معه، وحضر، صباح أول أمس، إلى بيت بنكيران لتقديم واجب العزاء في وفاة الراحلة مفتاحة، والتعبير عن تحفظه الضمني على استغلاله حطب وقود في نار لا علاقة له بها.
من تداعيات الأزمة المفتوحة حول تشكيل الحكومة الثانية لبنكيران، مس الثقة بين الدولة وحزب العدالة والتنمية، فالجميع يعرف أن أخنوش ليس بيده المفتاح ليحل الأزمة أو يغلقها، وأنه مكلف بمهمة، ولهذا، لا يشرك الملياردير أحدا من المكتب السياسي للأحرار في المشاورات، ولا يتجشم حتى عناء إخبارهم بما يجري في كواليس المفاوضات، ولهذا، عندما تسرب ذلك الشرط الغريب عن «امتناع الأحرار عن دخول الحكومة المقبلة إذا كان في نية بنكيران تقديم الدعم المباشر للفقراء»، انزعج الملياردير، وخرج بفتوى «المجالس أمانات»، وكـأن الأمر يتعلق بأسرار العائلات، وليس بأخبار تهم ملايين المغاربة.
من آثار الأزمة المفتوحة الآن حول تشكيل الحكومة، فقدان المغاربة الثقة في صندوق الاقتراع وفي السياسة كلها، حتى إن بعض المهرجين بدؤوا يتحدثون عن بركات بلاد بلا حكومة، وينظرون لهدم مؤسسات الحكم. فما معنى أن تدخل البلاد في جمود حاد فقط لأن الدولة صدمت بتقدم حزب العدالة والتنمية في اقتراع السابع من أكتوبر؟ فأول حكمة يتعلمها السياسي هي: «الذي لا تستطيع تغييره يجب أن تتحمله»، فالناس اختاروا، ولا معقب على قولهم في دولة تريد أن تكون دولة حق وقانون ومؤسسات وشرعية حديثة. ثم، ما الذي يخيف في بنكيران وحزبه إلى درجة أن ندخل البلاد في «سكتة دماغية» من أجل إنهاك المصباح، ودفع زعيمه إلى القبول بحكومة ضعيفة ومشتتة الأوصال؟
بنكيران أقدم على إصلاحات غير شعبية في الخمس سنوات الماضية (إلغاء الدعم عن المحروقات، إصلاح أنظمة التقاعد، الاقتطاع من أجور المضربين، تأخير سن التقاعد، وإلغاء التوظيف المباشر)، وبذلك وضع حدا فاصلا بين اتهامه بالشعبوية وتمتعه بالشعبية، والفرق واضح بين الاثنين.
حزب العدالة والتنمية، بكل بما له وما عليه، أظهر حسا برغماتيا كبيرا للتكيف مع منطق الدولة والتزاماتها وخصوصية المجتمع المغربي، فترك برنامجه الإيديولوجي خارج أجندة التشريع والتنفيذ، ولم يسع إلى زرع مناضليه في الإدارة بطرق غير قانونية وغير أخلاقية، وفهم أنه لكي تدور العجلة المغربية، يجب البحث عن أوسع التوافقات، سواء مع القصر أو مع باقي الأحزاب السياسية، أكثر من هذا، يحاول قادته أن يخرجوا الحزب من الخانة «الأصولية» إلى الخانة «المحافظة»، في مجتمع أصبحت بعض فئاته أكثر محافظة من الإسلاميين!
لنكن صرحاء، ونبعد عن الطاولة كل المدفوعات المزورة والحجج الواهية، والدعاية الإعلامية البليدة، التي تحاول أن تلصق بالعدالة والتنمية صفة «الإخوانية».. الملونان من المواطنين الذين صوتوا له ليسوا أغبياء، والشعبية التي يتمتع بها بنكيران ليست نتيجة حملات علاقات عامة، وتأثير دعاية إعلامية. يجب الاعتراف بحقيقة أن «صقور» السلطة الحاكمة تخاف الديمقراطية، وأن قلبها المرهف تجاه السلطوية لا يستطيع تحمل وجود حزب منظم ومستقل وقوي، حتى وإن كان مواليا للنظام… هنا مركز العطب، والباقي كله ضباب وغبار ودخان هدفه حجب الرؤية عن الناس، وخلط الأوراق حتى تبقى عملة السلطوية هي العملة الرسمية للمملكة. هذا خيار مكلف جدا في بلاد لا غاز فيها ولا نفط.. بلاد تبعد 12 كيلومترا عن أوروبا.. بلاد تدبر الندرة ولا توزع الوفرة.. بلاد 70٪ من سكانها عمرهم أقل من 30 سنة.. بلاد يمتلك 18 مليونا من مواطنيها هاتفا ذكيا مربوطا بالأنترنت.
جريدة اليوم 24