بقلم : توفيق بو عشرين
ذكرني الجدل حول سلوك الدرك الملكي في الطريق السيار وموجة الاحتجاجات التي سقطت هذا الصيف فوق رأس الجنرال كور دارمي حسني بسليمان، بسبب الفيديوهات التي نشرت في الفايسبوك حول خرق قوات الدرك في الشمال كما في الجنوب، لمدونة السير وتوقيف سيارات المواطنين في وسط الطريق السيار دون اعتبار للمادة 192 من مدونة السير، وتدخل وزير العدل والحريات الذي انحاز إلى القانون وإلى مطالب المحتجين، مما خلق حرجا كبيرا لمؤسسة أمنية كبيرة ومهمة في البلاد كانت تسعى دائما إلى الابتعاد عن الجدل السياسي والإعلامي، بأكثر من حادثة وقعت لكاتب هذه السطور مع قوات الدرك في الطريق السيار حول تطبيق هذا البند من قانون السير، لكن أهم قصة هي التي سأحكي الآن…
قبل حوالي سنة كنت قادما من طنجة في اتجاه الرباط عبر الطريق السيار. فجأة وجدت قوات الدرك وقد نصبت كمينا للسيارات القادمة من طنجة قرب العرائش تطالب كل من ترى أنه تجاوز السرعة المسموح بها بالتوقف على جانب الطريق السيار، وبشكل مفاجئ وبطريقة استفزازية تعرض سلامة المسافرين للخطر وحياة الدركي نفسه للخطر، لأنه يقف في وسط الطريق السيار في شبه منعرج بحيث لا يمكن رؤيته من بعيد للسائقين القادمين في اتجاهه وبعضهم يسير بسرعة كبيرة.
أوقفني الدركي وهو في عقده الرابع، وبعد تحية لبقة وأدب في الحديث، طلب أوراق السيارة فناولته إياها وسألته (آش كين أشاف) فرد علي، لقد تجاوزت السرعة المسموح بها في الطريق السيار وهي 126 كلم في الساعة، وأنت قادم بـ 128 كلم في الساعة كما يخبرنا الرادار، قلت له أنا تجاوزت السرعة، وأنت تجاوزت القانون المنظم للسير، ولولا احترامي لمؤسستك ولوظيفتك لما توقفت هنا معرضا نفسي وغيري لخطر التوقف في طريق مكتوب عليه ممنوع الوقوف أو التوقف. تعجب الدركي من ردي وعوض أن يسألني عن القانون الذي أحتج به سألني عن وظيفتي أو عملي قائلا: (ما ذا تفعل؟) قلت له ليس مهما ماذا أفعل. إن المهم الآن ماذا تفعل أنت؟
في البداية أنكر صاحبنا أن هناك فصلا في مدونة السير يمنع توقيف السيارات في الطريق السيار خارج محطات التوقف عند الأداء، ولما أخرجت له المدونة التي كانت معي وقرأت عليه الفصل 192 الذي يقول: يجب على الضباط وأعوان الدرك، أن يحملوا خلال ممارسة المراقبة على الطريق العمومية شارة تظهر الاسم الشخصي والعائلي. يجب التشوير عن بعد، وفق الشروط المحددة من لدن الإدارة، عند مراقبة المركبات على الطريق وعلى الطريق السيار، سواء بالنهار أو بالليل. غير أن اعتراض المركبات على الطريق السيار، من لدن الضباط والأعوان المذكورين، لا يمكن أن يتم إلا عند محطات الأداء وعند نقط الخروج من الطريق السيار).
لما عرضت على الدركي نص القانون ووجده واضحا في عدم قانونية توقيف السيارات خارج محطات الأداء، انتقل إلى مبرر آخر وهو (تنفيذ التعليمات) وقال: (اسمع السي فلان، نحن نوجد هنا بتعليمات من مسؤولينا، وهم يعرفون القانون أفضل مني ومنك، ولو كان فيه ما يمنع توقيف السيارات في الطريق لما وضعونا عند هذه النقطة). جوابه هذا استفزني فرددت عليه بالقول: (القانون فوق الجميع والدستور يشترط نشره في الجريدة الرسمية قبل نفاذه لكي يعرفه كل المواطنين ويحتجون به، أما كون مسؤولي الدرك يعرفون القانون أفضل منك فهذا جائز، أما أفضل مني فهذا فيه نقاش، أتعرف يا حضرة الدركي أنك الآن بصدد خرق ليس فقط القانون، بل الدستور الذي ينص على قاعدة جوهرية في دولة الحق والقانون وهي: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، والنص يقول لك بالحرف إن اعتراض المركبات يتم وجوبا عند محطات الأداء، وإنك عندما تخرق القانون لا تتعدى على مواطن وتحرر له مخالفة غير قانونية، لكن تتعدى على سلطة البرلمان التي سنها القانون، وعلى سلطة الحكومة المكلفة بتنفيذ القانون، وعلى القضاء الذي أوكل إليه الدستور التجريم والعقاب وفق ما جاء في القانون). لم يقتنع الدركي بهذه المرافعة تحت شمس حارقة، ورجع يتحجج هذه المرة بصعوبة تطبيق هذا البند من مدونة السير وقال لي: (أنا لا يمكنني أن أتبعك إلى أن تصل إلى القنيطرة وعندها أحرر لك مخالفة تجاوز السرعة، لأني سأخرج عن نطاق الاختصاص الترابي الذي أتحرك فيه). فقلت له: (هناك اختراع اسمه الاتصالات اللاسلكية تستطيع أن تتصل برفاقك في القنيطرة وتبعث لهم المخالفة وهم عندها يقومون بالواجب في المكان القانوني لتنفيذ العقوبة، وإذا كان هذا غير ممكن، فهناك طريق آخر غير نصب الكمائن بطرق غير قانونية في الطريق السيار. على كبار المسؤولين في الدرك أن يطلبوا اجتماعا مع وزير النقل والتجهيز، وأن يعرضوا عليه صعوبة تطبيق هذا القانون المعمول به في كل الدنيا، وأن يطلبوا منه استثناء الدرك الملكي منه. وعندها يعد الوزير مشروع قانون يجيز لأعوان السلطة توقيف السيارات والمركبات عند أية نقطة في الطريق السيار وغير السيار، وعندما يخرج القانون ويُنشر في الجريدة الرسمية عندها لا حرج عليك. أما الآن فالدرك وهو جزء من الدولة، عليه أن يعطي المثال للجميع في احترام القانون والتقيد به مهما كان الأمر مزعجا وصعبا لسلطة تعودت على أن تتصرف ويدها مطلوقة من كل قيد.
ضاق صدر الدركي بهذا الجدال الذي رآه عقيما، لكن عندما انتهت مبرراته أرجع لي أوراق السيارة وأغلق هذا القوس المزعج في (صباح منحوس) وقال لي: (مع السلامة. أنا لا أضع القانون ولا أناقش التعليمات، أنا أنفذ وكفى).
للدولة وظائف عدة، لكن أهمها بالتعريف هو احتكار العنف المشروع، والذي يجعل هذا العنف مشروعا ومقبولا من قبل الأفراد والجماعات، هو تقيد أجهزة الدولة بالقانون الذي وضعه ممثلو الأمة، باعتباره قانونا يخدم المصلحة العامة أولا، ويسري على الجميع ثانيا. هذا هو الذي يجعل مسدسا في يد شرطي مشروع، ومسدسا في يد مجرم غير مشروع. نعم، الخوف يجمع بين الاثنين، ولكن القانون والشرعية ما يُفرِّق بينهما.