الثقافة والسلطة مع الاعتذار الشديد

الثقافة والسلطة مع الاعتذار الشديد

المغرب اليوم -

الثقافة والسلطة مع الاعتذار الشديد

بقلم : توفيق بو عشرين

كان الجنرال الفرنسي شارل دوغول (1890-1970)، وهو رئيس جمهورية فرنسا، يحجز مقعدا دائما إلى جانبه في المجلس الوزاري لوزير ثقافته آنذاك، أندري مالرو، فسأله يوما أحد الوزراء: «لماذا لا تترك وزراء آخرين في الداخلية أو الخارجية أو المالية يجلسون إلى جانبك؟»، فرد دوغول: «أندري مالرو له رؤية إنسانية، وعندما نريد اتخاذ قرار اقتصادي أو سياسي أو دبلوماسي أو عسكري، ينظر مالرو نظرة خاصة إلى القرار.. ينظر إليه نظرة إنسانية أحتاج إليها أكثر مما أحتاج إلى أي نظرة أخرى. هذا هو سر المقعد المحجوز لمثقف كبير إلى جانب رئيس الجمهورية. هل فهمت؟».
روى المثقف المصري الكبير، أنور عبد الملك (1924-2012)، في كتابه «دراسات في الثقافة الوطنية»، حكاية تستحق أن تروى عن الجانب الأكثر ظلما في توظيف الخبرة الثقافية لاستعمار الشعوب: «رأى دانلوب، مستشار الثقافة والتعليم أيام اللورد كرومر، أول حاكم إنجليزي تسلم حكم مصر سنة 1883، أن الضمان الوحيد لاستعباد مصر على مر الأجيال لا يكمن في الاحتلال العسكري أو الاقتصادي، بقدر ما يكمن في ضرب الفكر المصري في الصميم، حيث يصير عاجزا عن التطور والإبداع والخلق، ويظل معتمدا على غيره ليتحرك. ورأى الخبير دانلوب أنه لكي يتحقق هذا الهدف لا بد من توجيه سياسة التعليم كلها من المرحلة الابتدائية إلى العليا نحو الحفظ دون المناقشة، والترتيل دون النقد، ومحاكاة المراجع دون تشريحها أو تكوين رأي مستقل عنها».. سياسة «حفظ وعرض»، على حد قول نبيلة منيب، وإن كُنتُ أتحفظ على السياق الذي استعملت فيه هذه العبارة بخفة امرأة غير مجربة.
الحكاية الأولى تظهر الدور التنويري للمثقف إلى جانب السياسي، والحكاية الثانية تبرز الدور الشيطاني للخبير إلى جانب السياسي. في كل الأحوال تحتاج السياسة إلى الثقافة، ويحتاج صاحب القرار إلى الفكر ليمده برؤية أبعد مما يراه السياسي المشغول بالتكتيك عن الاستراتيجية، بالمناورات عن التخطيط، وبالتفاوض عن الاطلاع على آفاق المستقبل.
عندما ترى ملكا أو أميرا أو رئيسا أو وزيرا أو زعيم حزب يحيط نفسه بكل الخبرات التي يراها ضرورية للحكم، لكنه يغيب الثقافة والمثقف، بل ويحاربهما ويتأفف من وجودهما إلى جانبه، فاعلم أن صاحبنا لا يبني المستقبل، ولا يتطلع إلى رؤية إنسانية لقضايا العصر، وأنه يطلب أتباعا لا شركاء، جلساء أنس لا عقول تفكير، بطانة تزين الأمر الواقع لا إبرا توخز الجسد المخدر… لهذا، كان إدوارد سعيد يقدم تعريفا بسيطا وعميقا لدور المثقف في العصر الحديث، فيقول: «المثقف هو الذي يقول الحقيقة للسلطة دون أن يخشى شيئا».
كان ملوك آل عثمان يضعون فريقا من الفقهاء لهم دور واحد يؤدونه كل صباح أمام قصر السلطان، أيام عز السلاطين.. كان هؤلاء الفقهاء مكلفين بالسير، كل صباح بعد صلاة الفجر، وراء السلطان الذي ينتقل من بيته إلى دار الحكم في القصر، ويرددون خلفه جملة واحدة تقول: «السلطان كبير والله أكبر»، يذكرونه بعظمة الله حتى لا يطغى وهو يحكم إمبراطورية تمتد إلى ثلاث قارات.
في أواخر السبعينات، أفرج إدريس البصري، وزير داخلية الحسن الثاني، عن عدد من المثقفين اليساريين الذين تعبوا من رطوبة السجون بعدما أمضوا عدة سنين في المعتقلات، وألحقهم سي إدريس بوزارة الداخلية كموظفين سلم 11، وكلفهم بقراءة وتفكيك خطابات اليسار وصحفه وكتبه ومجلاته. ومرة استدعى البصري واحدا من مناضلي اليسار الراديكالي إلى مكتبه الفسيح في وزارة الداخلية، التي كانت مقرا للمقيم العام الفرنسي أيام الاستعمار، وسأله: «ماذا يعني تغيير البنيات الإقطاعية للنظام الكمبرادوري في المغرب؟». بدأ مثقف اليسار، الذي كان يزعج النظام، يشرح لابن سطات معنى الجملة إياها، يتفلسف عليه بأدبيات الماركسيين، ويشرح دلالات العبارات ومغزى المفاهيم، فلم يفهم إدريس البصري شيئا من كل ذلك، وهو الذي يحمل حاسة الشرطي الذي يتتبع الجرائم، فأوقف المناضل اليساري، بعدما ضاق ذرعا بكثرة الشرح، وقال له: «لا تتعبني بكثرة الشرح. أصدقاؤك اليساريون الذين يشتغلون مع الدولة فسروا لي هذه العبارة المعقدة بكونها تعني بالملخص المفيد: ‘‘قلب نظام الحكم’’.. نقطة إلى السطر، ولهذا، فإنني سأمنع منشوراتكم لأنها تمس بالنظام العام.. مع السلامة».
هذا استعمال آخر للمثقفين والخبراء، مع الاعتذار الشديد إلى مالرو ودوغول وأنور عبد الملك وإدوارد سعيد وسلاطين آل عثمان لأنهم اجتمعوا في عمود واحد وفي صفحة واحدة مع بادريس رحمه الله.

المصدر : جريدة اليوم24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الثقافة والسلطة مع الاعتذار الشديد الثقافة والسلطة مع الاعتذار الشديد



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:56 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
المغرب اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 17:37 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 14:44 2024 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

العلماء يكتشفون أصل معظم النيازك التي ضربت الأرض

GMT 05:21 2016 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

أفضل بيوت الشباب والأكثر شعبية في العالم

GMT 11:00 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"السر المعلن"..

GMT 10:52 2023 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

مرسيدس تبدأ تسليم السيارة الأقوى في تاريخها

GMT 22:54 2019 الأربعاء ,13 آذار/ مارس

"فيسبوك" تنفي تعرض الموقع لاختراق

GMT 15:46 2019 الجمعة ,04 كانون الثاني / يناير

فضيحة "شاذ مراكش" تهدّد العناصر الأمنية بإجراءات عقابية

GMT 11:56 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

الحجوي يؤكّد أن تحويل الأندية إلى شركات يتطلب مراحل عدة

GMT 15:09 2018 الإثنين ,24 أيلول / سبتمبر

أحمد عز يواصل تصوير الممر في السويس

GMT 06:39 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

تمتعي بشهر عسل رومانسي ومميز في هاواي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib