بقلم : توفيق بو عشرين
العنوان أعلاه هو لمسلسل جديد (the crown) عرض في أكثر من تلفزيون وقناة في بريطانيا والعالم أخيرا، وهو مسلسل يحكي قصة الملكة إليزابيث الثانية، وكيف وصلت إلى عرش بريطانيا العظمى سنة 1952، وما هي التحديات والمتاعب التي واجهتها في حياتها الخاصة والعامة، في مملكة خرجت للتو من الحرب العالمية الثانية، فاقدة نفوذها العالمي الذي ورثته القوة الصاعدة في الطرف الآخر من الأطلسي، الولايات المتحدة الأمريكية. الفيلم اعتمد، في كثير من وقائعه، على كتب السيرة الذاتية التي ألفت عن الملكة التي مازالت جالسة في قصر باكنغهام إلى الآن، إلا في ما يتصل بالضرورة الدرامية التي تستوجب تغييرات وتحويرات في مسار الأحداث، لا توثر على جوهر القصة. المسلسل مليء بالدروس والعبر السياسية فضلا عن متعته الفنية ودقة تصويره وكفاءة مخرجه، لكن هنا نعرض بعض جوانب حياة أشهر ملكة في القرن والواحد والعشرين.. إنها إليزابيث الثانية التي تولى والدها، جورج السادس، العرش في 11 دجنبر 1936 بعد تنازل أخيه ادوارد عن المنصب بسبب زواجه بمطلقة أمريكية، وحتى لا يصطدم مع الكنسية الإنغليكانية التي تعارض الطلاق، وتعارض خاصة زواج الملوك بمطلقات إذا كان أزواجهم أو زوجاتهم السابقين على قيد الحياة، لكل هذا، انسحب ادوارد من العرش، وتمسك بالحب، فتنازل لأخيه الذي عهد بولاية العهد إلى ابنته الكبرى (لم يكن له سوى ابنتين، إليزابيث الكبرى وأختها مارغريت).
في أحد المشاهد التي تدور حول تعليم الملكة إليزابيث ، والمعارف التي كانت تلقن لها كولية للعهد لتهييئها لتولي مهام التاج ، يسلط المخرج الكاميرا على مشهد فريد تجلس فيه الطفلة إليزابيث في حجرة للدرس، ليس فيها أحد سواها، حيث تتلقى تعليما في مادتين لا أكثر؛ الأولى هي البرتوكول الملكي المرعي منذ قرون في البلاط الإنجليزي، أي كيف تلبس الملكة، وكيف تأكل، وكيف تتحدث، وكيف تخطب، وكيف تستقبل الضيوف في قصرها ولاهم متى تتكلم ومتى تصمت، والدرس الثاني هو القانون الدستوري، حيث تحفظ الملكة الدستور وأعرافه وتاريخه وحوادثه ايضا في بلاد تقوم الاعراف مكان المكتوب .
يقول الأستاذ للأميرة الصغيرة: “في بريطانيا هناك نوعان من الشرعية؛ شرعية الجلالة وشرعية الكفاءة، الجلالة يمثلها الملك، والكفاءة يمثلها رئيس الوزراء المنتخب. صاحب الجلالة لا يعطي الحساب لأحد إلا لله، اما صاحب الكفاءة فيقدم الحساب للشعب لأن ما يعود للشعب يقرر فيه الشعب… المؤسستان: التاج والحكومة، أو صاحب الجلالة وصاحب الكفاءة، لا ينجحان معا سوى إذا تعاونا، وإذا دعم الواحد الآخر. ولكي يتحقق هذا، فلا بد أن يثقا في بعضهما البعض. هل يمكن أن تسطري يا أميرتي على كلمة ثقة Trust؟ هنا تنتقل الكاميرا لتنقل لنا يد الأميرة الصغيرة وهي تضع خطا بقلمها تحت كلمة Trust… ثم تسأل الأميرة أستاذها سؤالا بريئا: هل كل التلاميذ في بريطانيا يتلقون هذا النوع من الدروس؟ يأتي جواب الأستاذ الشيخ من وسط قاعة مليئة بالكتب: لا (التلاميذالآخرون لا علاقة لهم بالجلالة، هم يدرسون ما ينفعهم في حياتهم، أي الكفاءة”.
الملكة ستتذكر هذا الدرس في الأيام الأولى لحكمها، حيث وجدت أمامها مؤامرات السياسيين والحزبيين، إذ جاء إلى بلاطها من يحرضها على رئيس الحكومة المنتخب، ونستون تشرتشل، الذي عاد، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى تشكيل الوزارة رغم تقدمه في السن. خصومه أرادوا أن يسقطوه بعصا جلالة الملكة، حيث أوعزوا لها بأن تطالب تشرتشيل بالتنحي لصالح غريمه …. بدعوى أن الاول مريض ومتقدم في السن، والملكة في أوج الشباب والعطاء، وأن العهد الجديد يحتاج إلى وجوه جديدة، فما كان من الملكة إلا أن سألت مستشاريها: “وهل يسمح لي الدستور بذلك؟ هل يستطيع صاحب الجلالة أن يزيح صاحب الكفاءة المنتخب؟”، فران الصمت على الجميع، وطافت الكاميرا على وجوههم تنقل علامات التعجب من جواب ملكة حديثة العهد بالعرش… رغم أن إليزابيث لم تكن ترتاح إلى عنجهية أحد أبطال الحرب العالمية الثانية تشرتشيل وسليل المؤسسة المحافظة، حيث إنها اصطدمت به منذ اليوم الأول لها في العرش، عندما فضلت ألا تنتقل إلى دار الملك الرسمي، أي قصر باكنغهام، الذي كان مكروها من لدن الجيل الجديد في الأسرة الملكية، فما كان من ترتشل إلى أن نقل إليها قرار مجلس الحكومة الذي لا يساير هواها، وقال لها بأدب جم: “قصر باكنغهام هو بيت الحكم، وعموم البريطانيين لا يعرفون سواه، وليس من المناسب أن تهربي منه”، فقالت له: “لكني على وشك ان انتهي من تشييد بيتي الخاص، حيث أعيش مع زوجي وأبنائي في بيت اختاروه هم، ولم يرثوه عن أجدادهم وعن عصور أخرى مضت وانقضت”، فرد رئيس الحكومة: “هذه أول تضحية تقومين بها لصالح العرش، وهذا أول درس تتعلمينه، فيوم وفاة والدك ماتت معه الابنة المدللة وولدت الملكة”.
كل أربعاء يحضر رئيس الحكومة إلى قصر باكنغهام، يمضي 20 دقيقة لا أكثر، ليطلع الملكة على أخبار وأسرار الدولة حتى تكون على بينة من أحوال الأمة، ويستمع إلى توجيهاتها العامة، وهي تستمع إلى سياساته العمومية، وحتى عندما لا يتفقان، فإن كل واحد يعرف حدوده، وكل واحد يبقي جسور الثقة ممدة تجاه الآخر.
غدا نعرض مشهدا آخر عن علاقة الصحافة بالتاج، وهو مشهد لا يخلو من فائدة لبلدان وأمم أخرى لم تصل بعد إلى صيغة التعايش بين السلطتين.. إلى اللقاء.