بقلم : توفيق بو عشرين
بدأت طنجرة الانتخابات تسخن ومعها بدأت الضربات تحت الحزام وفوقه تكثر بين كل الفرقاء السياسيين، ليس فقط من أجل الوصول إلى مقاعد مجلس النواب وكراسي الوزارة المقبلة، ولكن من أجل ربح رهانات سياسية كبيرة ومعقدة. فحزب العدالة والتنمية يريد أن يواصل ما بدأه من مشاريع وإصلاحات، الهدف منها هو التطبيع مع القصر وتحرير السياسة من قبضة المخزن الذي يسميه تحكما وتثبيت رجل الحزب في إدارة الحكم في نظام كان على وشك أن يعصف به، وكان على مقربة من حل المصباح بعد 2003.
فبنكيران يرى في حزب الأصالة والمعاصرة واجهة لمشروع السلطة للتحكم في الحياة الحزبية وإقصاء لباقي الأحزاب، وعلى رأسها العدالة والتنمية الذي ربح نقاطا كثيرة في (شرعية التمثيل) لم يصل إليها البام. هذا الأخير يريد أن يصل إلى المرتبة الأولى في الانتخابات ليس فقط، من أجل تشكيل الحكومة المقبلة أو دخول حكومة ائتلافية لاكتساب الشرعية، لكن من أجل إنقاذ مشروع الجرار المعرض للانقراض إذا لم يفز البام في هذه الانتخابات واضطر إلى الرجوع إلى كراسي المعارضة، فالذي خلق الحزب وباع مشروعه للدولة وقبض ثمن الوعد بخلق حاجز أمام اكتساح الإسلاميين للمشهد السياسي، مطالبٌ الآن بالوفاء بالتزاماته وتحقيق وعده الذي تأجل مع هبة الشارع في 2011، وإلا ما جدوى هذا الحزب على أرض الوقع. فالذي يطل مثلا على أوراق «ويكيلكس» التي كتبها السفير الأمريكي السابق من الرباط، وبعثها إلى واشنطن حول البام وعلاقة السلطة به وأساليب عمله، يقف على حجم الخسائر التي تكبدتها الدولة من سمعتها وحيادها وصدقيتها مقابل رعاية الجرار، وتمهيد الطريق أمامه، ليس فقط لمنافسة الإسلاميين، بل وللقضاء على احتكارهم للتمثيلية الشعبية.
ولهذا فان العقل السياسي للبام يفكر على واجهتين: الأولى، هي خطة القضاء على المصباح بكل الوسائل الممكنة حتى لا يضطر إلى النزول إلى المعارضة التي لم يخلق لها حزب تأسس في ظروف خاصة ليحكم، وليس ليعارض ليعطي للدولة فسحة لتأجيل المطلب الديمقراطي. والثانية هي إقناع الدولة بالاستمرار في الرهان على البام والاستثمار السياسي والمادي في مشروعه، باعتباره خط الدفاع الأخير في وجه الإسلاميين، وإلا فإن الدولة ستبحث عن خيارات أخرى من بينها التكيف مع الواقع الجديد والقبول بقواعد اللعبة التي أرساها الدستور الجديد، وعلى رأسها وجوب خروج الحكومة من صناديق الاقتراع.
مذهب الدولة المغربية في الحكم قديما وحديثا هو (البرغماتية)، إذ كل شيء يتغير عندها.. السياسة، الحلفاء، الأعداء، الخصوم، وزمن الحرب كما زمن السلم. لكن الشيء الوحيد الذي لا يتغير هو المصلحة، ومصلحتها أن تظل ممسكة بخيوط اللعبة ومقاليد الحكم ودفة السلطة والثروة، لكن في الوقت ذاته الدولة حذرة وتعرف أنها تدبر إكراهات صعبة، وأزمنة متقلبة، وشعب تزداد حاجياته ولا تزداد موارده، لأن نمط التدبير المعتمد لا ينتج تنمية حقيقية تضمن الاستقرار والتوازن على المدى البعيد، ولهذا تعوض الدولة المخزنية مثلا السياسات الاجتماعية المطلوبة في دولة عصرية بالإحسان والصدقة القادمين من الدولة القديمة، وتعتمد نظام العفو عن المجرمين عِوَض إقرار سياسة جنائية عادلة وبنية اقتصادية واجتماعية وتعليمية تقلص من الجريمة، وتعتمد الدولة سياسة الإنعام والرضا والقرب والولاء تجاه رعاياها، عِوَض أن تعتمد سياسة الكفاءة والاستحقاق والمساواة والتعاقد مع المواطنين…
وهكذا، فإن نظامنا السياسي يعيش بالتقليد ولأجل التقليد لامتصاص الحداثة التي ينتجها العصر والتقدم حول العالم، وهذا ما يخلق توترات دائمة ومستمرة تحتاج إلى إدارة معقدة وموارد كبيرة ورعايا كثر ونخب مولوية تستوعب هذا المنطق وتنخرط فيه…
من هنا تكتسي هذه الانتخابات أهمية قصوى للأحزاب وللدولة وللشعب، لأنها ستشكل نقطة تحول كبرى ستحكم على مستقبل المغرب في الخمس أو العشر سنوات المقبلة.