بقلم : توفيق بو عشرين
يعي الملك محمد السادس أن بلاده لا نفط فيها ولا غاز، وأن الدولة تدبر الندرة ولا توزع الوفرة، وأن 12 مليون مغربي يقبعون تحت خط الفقر، يعيشون بأقل من دولار في اليوم، وأن المغرب يعيش انتقالا ديمغرافيا حساسا ودقيقا يجعل من فئات الشباب «الكتلة الحرجة» وسط الشعب، وأن 65% من المغاربة أصبحوا يقطنون بالمدن أو بشبه مدن، وأننا ودعنا مقولة ريمي لوفو التي أطلقها في السبعينات عن «الفلاح المغربي المدافع عن العرش».. اليوم الأغلبية الساحقة تدافع عن الملكية بوعد قرانها مع الحداثة والديمقراطية.
ويعرف الجالس على العرش أن أراضيه لا تبعد عن أوروبا سوى بـ12 كلم من المياه الدافئة للمتوسط، وأن أضواء سيارات الجنوب الإسباني تُرى من طنجة ليلا فتنعش آمال الهجرة لدى البعض، وطموحات تقليد النموذج الناجح لدى الجيران لدى الباقي، ولهذا، فإن تأثير القارة العجوز الثقافي والسياسي والإعلامي على المملكة الشريفة يجعلها أقرب إلى الغرب منها إلى الشرق.. الغرب الديمقراطي التعددي المنفتح والغني، والشرق الديكتاتوري الغارق في الحروب الطائفية والمذهبية، الذي يقايض السلم الاجتماعي بالريع، والحرية بالنفط.
العاهل المغربي يعرف أيضا أن مملكته عرفت التعددية السياسية وميلاد الأحزاب والنقابات قبل الاستقلال، وتعززت بعد الاستقلال بكلفة عالية من الدم والقمع واللجوء، أداها عن المغاربة مناضلو أحزاب المعارضة واليسار الجذري، وأن في البلاد مجتمعا مدنيا ناشطا ومتحركا يكبر يوما بعد آخر، ويراكم تجارب مهمة، سنة بعد أخرى، في الوساطة والاحتجاج والضغط والترافع عن قضاياه وقناعاته، وأن في البلاد رأيا عاما مسلحا بشبكات التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الإعلام والتواصل، يطلب الاستقرار لكنه لا يفرط في هامش من الحرية.. هامش يريده أن يكبر سنة بعد أخرى في بلاد تطمح إلى أن تجعل من انفتاحها الديمقراطي رأسمالا سياسيا للاستثمار في الاستقرار الحقيقي والبعيد المدى.. استقرار مبني على صرح الأحزاب والحكومات والبرلمانات التي تعبر عن طموحات الشعب، وتنقل مطالبه إلى الأعلى، وتقي النظام مخاطر الاصطدام بالشارع.
الملك يعي أن الانفتاح الديمقراطي في المغرب ضروري، أيضا، كورقة دبلوماسية لمواجهة مخاطر الانفصال في الصحراء، وإقناع القوى الكبرى بأن في البلاد عملية سياسية قادرة على استيعاب كل المطالب الجهوية والإثنية والاقتصادية والسياسية، تماما كما تدير إسبانيا وفرنسا وبريطانيا مطالب الانفصال داخلها بهدوء وذكاء وعقلانية، لأن طبيعة النظام المفتوح تسمح بذلك.
محمد السادس يعرف، أيضا، أن توجه نظامه الليبرالي هو مفتاح علبة الاستثمارات الأجنبية في بلاد تحتاج إلى أموال وخبرة واندماج في السوق العالمي لتدارك التأخر، والأعطاب القديمة في اقتصاد قابع تحت رحمة المطر وتحويلات المهاجرين وعدد السياح… اقتصاد لا هو فلاحي، ولا هو خدماتي، ولا هو صناعي، ولا هو مالي، هو خليط من هذا وذاك، وفي الأخير يجد نفسه عاجزا عن خلق 140 ألف منصب شغل في السنة التي يحتاج إليها أبناؤه، وعاجزا عن سد حاجياته بميزانية صغيرة تعادل ميزانية مدينة متوسطة في أوروبا.
محمد السادس يعرف أن بلاده إذا خرجت عن سكة التحول الديمقراطي، ولو في حدها الأدنى، فهذا معناه أن البلاد ستبقى محاصرة في مربع صغير في شمال القارة، وأنها ستبقى موضوعا للعلاقات الدولية، وليست فاعلا في العلاقات الدولية والإقليمية، خاصة أن المغرب يطمح إلى العودة إلى لعب دور نشيط وحيوي في القارة السمراء المليئة بالمشاكل والفرص.. بالمخاطر والآمال.. بالحروب والمواد الأولية… ولكي تلعب مع الكبار خارج حدودك، لا بد أن تكون إما غنيا مثل الصين، أو متخما بالنفط مثل السعودية، أو ديمقراطيا يحترمك الخارج، ويعرفون أنك تمثل شعبك وتعيش عصرك.
لكل هذه الاعتبارات، جاء الخطاب الملكي الأخير مطمئنا الخائفين على القوس الديمقراطي من أن يغلق، معلنا الاستمرار في تجربة الانفتاح السياسي التي بدأت قبل خمس سنوات، ولم تغلق كليا رغم أن الربيع العربي تحول إلى خريف دموي، والديمقراطية نزلت من سلم الأولويات تاركة مكانها للأمن، بعدما صار الإرهاب يهدد كيانات الدول وليس فقط وجود الأنظمة… لهذا، لا أتصور أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستعرف عودة إلى «التزوير القديم» الذي كان يتلاعب بالاستشارات الشعبية، ويتجاهل نتائج الصندوق أثناء تعيين الحكومات، لكن، في الوقت نفسه، لن يُترك حزب العدالة والتنمية يقطف ثمار شعبيته في الشارع، ولن يُترك حرا طليقا حتى لا يرجع بقوة أكبر إلى الحكومة والبرلمان المقبلين. ستعمد القوى المناهضة للتحول الديمقراطي إلى تحجيم حزب عبد الإله بنكيران نسبيا، خاصة إذا نزلت نسبة المشاركة في انتخابات أكتوبر، وزحف المال السياسي على صندوق الاقتراع، وجرى شطب مئات الآلاف من لوائح الاقتراع، وجرت إعادة انتشار كتل ناخبة لصالح هذا المرشح أو ذاك.
اقتراع أكتوبر هو أكثر من انتخابات عادية لإعادة تشكيل أغلبية جديدة.. اقتراع أكتوبر مفترق طرق، واختبار حقيقي للإرادات والعقول والطموحات.