بقلم - توفيق بو عشرين
النظام الداخلي، الذي صادق عليه المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالإجماع، أسقطته المحكمة الدستورية مرتين؛ مرة بسبب الشكل، ومرة بسبب الموضوع، وكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أقرأ النظام الداخلي لأعلى سلطة قضائية، وأرى كيف حصن القضاة من بعض أوجه المساءلة، وكيف وضع قيودا على شكايات المواطنين غير موجودة -القيود- في القانون التنظيمي للمجلس للأعلى، وكيف أعطى النظام الداخلي للمجلس صلاحيات خطيرة ودقيقة للجنة إدارية يعينها الرئيس المنتدب، وأوكل إليها اختصاص الحكم على جدية التظلمات والشكايات المرفوعة إليه ضد القضاة من عدمها، قبل عرضها على أنظار المجلس (هذا المقتضى الذي وضعه المجلس يحول لجنة إدارية إلى محكمة تصدر حكمها على شكايات المواطنين، دون أن تمر على أنظار المجلس الأعلى، المشكل من قضاة معينين وآخرين منتخبين وأعضاء بالصفة). جاء القانون الداخلي للمجلس معيبا من عدة وجوه وقفت المحكمة الدستورية على أهمها، منها إسقاط الشرط الذي أثار ضجة وسط الحكومة والصحافة، والمتعلق باشتراط توقيع الشكايات ضد القضاة قبل توجيهها إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وعدم قبول الشكايات مجهولة الاسم، أو التي لا مصلحة مباشرة لصاحبها، رغم أن القانون التنظيمي للمجلس لم يربط هذه الشكايات بأي قيود حتى يشجع المواطنين، كل المواطنين، على فضح فساد محتمل وسط الجهاز القضائي، دون خوف من انتقام أو متابعة أو حرج، ففي جميع الأحوال، الشكايات المجهولة والمعلومة، الموجهة إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، لا تعطي مفعولها دون بحث وتحر وتحقيق من قبل السلطة التأديبية التي أوكل إليها الدستور مراقبة عمل القضاة والمحاكم.
الخلاصة من حكم المحكمة الدستورية، الذي أسقط النظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية لمخالفته القانون التنظيمي والدستور، هي:
أولا: لقد كتب القانون الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بقلم «قضاة» انحازوا، قصدا أو دون قصد، إلى توفير حماية وامتيازات لزملاء المهنة، ولم يتصرف الأعضاء المحترمون للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، في هذه النقطة بالذات، بتجرد كامل من بذلتهم ووظيفتهم وانتمائهم ولهذا ابتعدوا عن إقرار مبدئي العدل والإنصاف.
ثانيا: أظهر الفشل النسبي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في تمرين كتابة نظام داخلي سليم ومتوازن، ومنسجم مع الدستور والقانون التنظيمي، الصعوبات التي ستواجه المجلس الجديد بتركيبته الجديدة، التي لا يبدو أنها استوعبت، إلى الآن، المهام الجسيمة الموضوعة فوق رأسها، في بلاد تشكو عدالتها فقر المصداقية والثقة والاستقلالية، في المرفق القضائي وهذا ربما ما دفع أحد مهندسي هذا الإصلاح إلى الخروج عن تحفظه، وإسماع صوت خوفه على كل الإصلاحات التي نادى بها في حالة إقرار القانون الداخلي للمجلس (مصطفى الرميد وزير العدل والحريات السابق وزير الدولة في حقوق الإنسان الآن).
ثالثا: إذا كان مطلب استقلالية القضاء مطلبا ديمقراطيا ومؤسساتيا، وينسجم مع أركان دولة الحق والقانون وفصل السلط، فهذا لا يعني أن يصبح جهاز القضاء في أيدي بعض القضاة يدافعون به عن مطالب فئوية، أو ينشئون به حصانة غير قانونية. سبق وأن كتبت افتتاحية في هذا الركن زمن الحوار الوطني حول إصلاح العدالة، تحت عنوان: «احذروا دولة القضاة»، بمناسبة إخراج النيابة العامة من تحت أي سلطة للرقابة، وقد استاء عدد من القضاة من هذا الرأي، بل ومنهم من رتب عليه جزاءات وعقوبات في حق كاتب هذا الرأي، سيجيء الوقت لعرضها أمام المؤسسات والرأي العام، لنعرف هل أُسقطت القداسة عن الملك في الدستور الجديد وذهبت إلى شخصيات أخرى دون علم المشرع!
رابعا: لا يمكن أن نصدر حكما نهائيا على عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو بعد لم يزاول مهامه، ولا انتهى من كتابة نظامه الداخلي الذي سيعيد كتابته مرة أخرى، لكن لا بد من الوقوف عند حكم المحكمة الدستورية التي تصرفت بحكمة وبعد نظر، وروح قانونية وحقوقية عالية، وهي ترد هذا النظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، في ما يشبه نقطة نظام لا بد للجميع أن يدرك أبعادها، خاصة وسط القضاة، في مجلس موضوع على عاتقه أن يؤسس قضاء حرا ومستقلا وكفئا، يسترجع ثقة الناس في محاكمهم وقضاتهم.
في الحرب العالمية الثانية، وبينما كان هتلر يدك لندن بطائراته كل يوم، تقدم مواطن بريطاني بشكوى إلى المحكمة ترمي إلى إلغاء قرار الجيش البريطاني إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة مدنية، خوفا من استهدافها من قبل الطيران الألماني. وقع هذا في زمن الحرب وليس في زمن السلم، فكان رأي المحكمة من رأي المواطن، وحكمت بعدم جواز إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة آهلة بالسكان، فجاء وزير الدفاع عند رئيس الحكومة، ونستون تشرشل، غاضبا من حكم المحكمة التي تتدخل في الشأن العسكري، وتقيد يد الجيش زمن الحرب، فرد عليه تشرشل بحكمة مازالت مسجلة في كتب سيرته وسيرة حكومته، فقال له: «أهون علي أن أخسر حربا على أن يقال إن تشرشل رفض حكم القضاء البريطاني… أن نربح قضاء شامخا أهم من أن نربح حربا، ولو كانت عالمية»، وفي النهاية ربحت بريطانيا الاثنين.. الحرب والقضاء.