بقلم : توفيق بو عشرين
أمام المغرب فرصة قد لا تعوض لإرساء جيل جديد من الإصلاحات الديمقراطية والمؤسساتية التي من شأنها أن تخرج نظامه السياسي من حالة التردد التي يعيشها بين الاختيار الديمقراطي والاختيار السلطوي… إليكم بعض عناصر هذه الفرصة السياسية لإعادة إطلاق دفعة جديدة من الإصلاحات، التي من شأنها أن تقرب المملكة من نادي الديمقراطيات الحديثة، وتبعدها عن أمراض الاستبداد والفساد.
1- فشل حزب السلطة (الأصالة والمعاصرة) في الوصول إلى المرتبة الأولى في انتخابات السابع من أكتوبر، رغم جرعات المنشطات القوية التي حقن بها، ورغم الإمكانات الضخمة التي وضعت بين يديه، ورغم تقديم نخب أربعة أحزاب (الاتحاد والاستقلال والأحرار والحركة) له على طبق من ذهب (أكثر من 40٪ من مرشحيه للانتخابات أعيان استقدموا من هذه الأحزاب، وجاؤوا إلى الجرار لوضع كتلهم الناخبة تحت تصرفه). هذا معناه أن رهان الدولة على الجرار فشل لأن المواطنين لم يعودوا يقبلون من الدولة أن يكون لها حزب، ولم يعودوا يقبلون من السلطة أن تنتخب لهم من يحكم.
2- استعملت وزارة الداخلية كل الوسائل التي بيدها لتغيير نتائج الاقتراع والتأثير على إرادة الناخبين، وصناعة خريطة انتخابية لا تطابق الخريطة السياسية، لكنها لم تنجح في مسعاها، واتجه حوالي مليوني ناخب لإعطاء أصواتهم لحزب العدالة والتنمية، الذي قدم نفسه للناخبين باعتباره حزب «المعقول» الذي حافظ على نظافة يده، رغم قلة إنجازاته وضعف أطره، لكنه حزب كانت له الشجاعة ليحافظ على استقلالية قراره، وليقول للناس الحقيقة، وليتطور فكريا وإيديولوجيا، ويقبل بأصول القواعد الديمقراطية.
3- لقد أعطي الملك محمد السادس فرصة لم تعط لوالده الملك الراحل الحسن الثاني لقيادة تحول ديمقراطي مع شريك موثوق فيه، يتفهم إكراهات التحول في نظام تقليداني، ويراعي مبدأ التدرج في الإصلاحات، وهذه الفرصة تتمثل في وجود حزب قوي في المغرب له تمثيلية واسعة في الشارع، وفي الوقت نفسه حزب ملكي، وقائد له ولاء كبير للعرش، وإيمان عميق بأن الإصلاح والاستقرار لا يمكن أن يتحققا إلا بتوافق مع الملكية، إلى درجة أن عبد الإله بنكيران قال قبل أشهر مخاطبا الملك: «حتى لو وضعتني في السجن سأبقى مؤيدا لك»، وهذا ليس معناه أن بنكيران سياسي منبطح، أو خادم «مشرط لحناك»، أو متملق يبحث عن مصلحة أو ريع أو امتياز، فهو نفسه لم يسكت عن «تجاوزات التحكم»، وهو نفسه الذي ينتقد مستشاري الملك، وهو نفسه الذي تحدث عن وجود دولتين في المغرب بدون لسان من خشب، لهذا، فإن التوافق بين العرش وحزب له تمثيلية واسعة في المجتمع، حول خطة لإصلاح عميق لجهاز الدولة، من شأنه أن يؤهل البلاد للعبور نحو شط الديمقراطية بأمن وأمان.
4- الخريف العربي إلى زوال، وستنبعث موجة جديدة من الحراك الديمقراطي في العالم العربي، فالإرهاب الذي خدم الاستبداد وأخاف المواطنين، وجعلهم يفضلون الأمن على الديمقراطية في انحسار (داعش تذوب كل يوم في العراق وسوريا وليبيا)، والانقلاب في مصر الذي شكل رأس الحربة في الإطاحة بالربيع العربي (انقلاب السيسي) لم ينجح، والقاهرة تقترب كل يوم من الانهيار رغم أن دول الخليج مولت فيها أغلى انقلاب في تاريخ البشرية، والسعودية التي كانت تقود معسكر الحساسية من الديمقراطية تراجع نفوذها في الإقليم بسبب تخلي أمريكا عنها، وبسبب فشل عاصفتها في اليمن، وبسبب نزول أسعار النفط، وصدور قانون «جاستا» الذي سيلاحقها إلى سنوات مقبلة بدعوى تحميلها المسؤولية المدنية عن أحداث 11 شتنبر. النظام العربي الحالي يواجه ندرة موارد حادة ستعمق من عجز الشرعية لديه، ومن قدرته على قمع شعبه، والتحكم في التيارات الإصلاحية داخله، ومن ثم ستعود الاحتجاجات والمظاهرات والاضطرابات إلى الميادين الرئيسة في جل الدولة العربية، وعلى المغرب أن يكون استثناء حقيقيا في وسط محيط مضطرب، وهذا لن يتحقق إلا إذا لمس المغاربة آثار التغيير في حياتهم اليومية، وأحسوا بأن في البلاد حكومة تمثلهم، ورئيس حكومة يحكم ولا يشتكي التماسيح والعفاريت، وبرلمانا يعكس هموم الشعب، ودولة في خدمتهم.
تتقدم المجتمعات الحديثة عندما تصبح الديمقراطية عندها مبدأ، وليس فقط نظام حكم، وتتطور عندما تصبح السلطة فيها موزعة على أكثر من جهة، وتتقدم الممارسة السياسية عندما ينتقل الجمهور من كراسي الفرجة إلى مواقع المشاركة… أمام هذه الحكومة مهام صعبة وحساسة، وأولاها إقناع 20 مليون مغربي لم يصوتوا في الانتخابات الأخيرة بصواب المشاركة السياسية، وأمام هذه الحكومة 12 مليون فقير يجب أن تخرج ثلثهم على الأقل في الخمس سنوات المقبلة من الإملاق إلى الحد الأدنى من العيش، وأمام هذه الحكومة مدرسة عمومية ماتت ويجب إعادتها إلى الحياة لفتح نوافذ الأمل أمام ملايين الأسر، وأمام هذه الحكومة جبل من الفساد يجب القضاء على جزء منه على الأقل، ولهذا، فإن المملكة تحتاج إلى أكثر من حكومة تقليدية وعادية.. تحتاج المملكة إلى توافق تاريخي بين كل القوى الحية للنهوض بالمهمة الصعبة.