بقلم : توفيق بو عشرين
قبل شهر من إجراء الانتخابات، توقعت أن يفوز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى، وكتبت افتتاحية عدد 5/9/2016: «أتوقع أن يفوز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية المقبلة، وسيتبعه حزب الأصالة والمعاصرة ثانيا، ثم الاستقلال ثالثا… لنأتِ إلى الأرقام رغم صعوبتها، أتوقع أن يفوز البيجيدي بحوالي 125 إلى 130 مقعدا، والأصالة والمعاصرة ما بين 80 و85 مقعدا، والاستقلال بين 40 و45 مقعدا». أترك لكم المقارنة بين هذه التوقعات وبين ما أعلنته وزارة الداخلية أول أمس من نتائج رسمية، لكن لي تعليقا واحدا على أرقام البام (102) التي جاءت بعيدة عن توقعاتي. إنها أرقام مبالغ فيها كثيرا، ولن يصدقها إلا القليل، ولهذا لا أتوقع أن يتعامل معها أحد في الدولة وفي الأحزاب بالجدية المفترضة.. نقطة إلى السطر.
لنمر إلى قراءة نتائج ثاني انتخابات تشريعية بعد الربيع المغربي، ودلالاتها السياسية. الأرقام لا تكذب -يقول الإحصائيون- لكنها، في الوقت نفسه، تحتاج إلى من يجيد قراءتها واستخلاص الرسائل منها، ولنبدأ بنسبة المشاركة التي نزلت من 45% سنة 2011 إلى 43% سنة 2016. ظني أن نزول نسبة المشاركة سببه عوامل كثيرة، أهمها، أولا، التضييق على التسجيل الإلكتروني الذي نهجته الداخلية لإبعاد الشباب عن المشاركة، اعتقادا منها أن اتساع المشاركة «سيزيد الشحمة في ظهر العدالة والتنمية»، والسبب الثاني هو جو الخوف الذي أشاعته السلطة قبل الانتخابات من احتمال انقسام المجتمع المغربي بين «حزب أصولي إخواني» وحزب «حداثي علماني»، وما تظاهرة الدار البيضاء إلا نموذج لهذا التقاطب الحاد الكاذب الذي صوروه في عقول المغاربة، ما أبعد بعض ناخبي المدن عن صناديق الاقتراع. أما ثالث تفسير لنزول نسبة المشاركة، حتى وإن زاد عدد المصوتين بنصف مليون مقارنة بسنة 2011، فهو التدخل السافر للسلطة لدعم وإسناد البام، ما بث الشك في نفوس الناس، ودفعهم إلى الاعتقاد أن «الماتش مبيوع» أو محسوم قبل أن يعطي الحكم انطلاقته، ولهذا لا حاجة إلى المشاركة.
الآن لنمر إلى فوز العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى في ثاني اقتراع بعد الربيع العربي، في واحدة من «الاستثناءات» التي يتميز بها المغرب عن سواه من الدول العربية، التي دخل حراكها الشبابي إلى أزمات وحروب أهلية وانقلابات عصفت باستقرارها، فقد نجح بنكيران ليس فقط في الحفاظ على نتائجه السابقة المتمثلة في 107 مقاعد، بل زاد عليها 18 مقعدا جديدا بعدما قضى خمس سنوات يتلقى كل أنواع الضرب فوق الحزام وتحته، وقناعتي أنه كان سيحصل على أكثر من هذا الرقم لو لم تتدخل السلطة لتسمين البام بكل الطرق الممكنة، وتخفيض العتبة، وتشتيت آلاف الناخبين على مراكز اقتراع بعيدة عن محل سكناهم أو مجهولة العنوان، ومنع تجمعات المصباح وسط المدن قبل الحملة وبعدها، وطرد بعض المراقبين من مكاتب التصويت، وعدم تسليم كل المحاضر لحزب رئيس الحكومة (إلى كتابة هذه الأسطر مازالت الداخلية تمتنع عن تسليم عدد من محاضر اللائحة الوطنية والمحلية للأحزاب المشاركة في الانتخابات).
ومع كل هذا «الرجيم القسري» الذي فرض على المصباح استطاع أن يفوز بالمرتبة الأولى في اقتراع صعب ومعقد، وأن يحسن من نتائجه، وأن يخلق حالة سياسية فريدة اقتربت فيها الخريطة الانتخابية من الحقيقة السياسية، ولولا تدخل وزارة الداخلية، بطرق ناعمة وأخرى خشنة، لكنا إزاء تفويض شعبي كبير لبنكيران وحلفائه للاستمرار في تنزيل شعار: «الإصلاح في ظل الاستقرار»، ومواصلة المعركة ضد التحكم على كل الواجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والإعلامية…
مرة أخرى أقولها، لم يصوت 1,8 مليون مواطن لحزب العدالة والتنمية لأنه إسلامي، أو لأنه يتبنى إيديولوجيا دينية، صوت كل هؤلاء لبنكيران لأنهم يثقون في نظافة يده، في بلاد عملتها الرسمية الثانية بعد الدرهم هي الفساد، وأعطى جزء من الناخبين المرتبة الأولى لبنكيران لأنه يعدهم بالإصلاح العميق للدولة بأقل كلفة ممكنة. صوت الناس للمصباح لأنه لا بديل أمامهم غيره، رغم تحفظ بعضهم على حصيلته ونهجه السياسي، ولأن الدولة عندنا تتمتع بدرجة ذكاء «تحسد عليها»، فإنها اختارت أن تعطي المصباح وقودا إضافيا اسمه «المظلومية»، فأصبح بنكيران مثل شيعي يحمل مظلمة الحسين على ظهره، ويجوب البلاد طولا وعرضا يبكي على فقدان العدل، وعلى الظلم الذي يلحقه من السلطة، والناس، كل الناس، يتعاطفون بالفطرة مع المظلوم ويميلون إلى نصرته، وهكذا رأينا أن موضوع التجمعات الجماهيرية التي أقامها بنكيران لم يكن هو حصيلة الحكومة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، ولم يكن الموضوع هو نسبة النمو والعجز والبطالة، ولا نوعية القوانين التي قدمتها الحكومة للبرلمان، ولا أسباب غيابها عن المجال الدبلوماسي، ولا خلفيات تعطيل بعض بنود الدستور… أصبح الموضوع الأساسي في خطاب الحملة هو سيرة التحكم وأدواته ومخاطره، وتحرشات السلطة بتجمعات الحزب، وإبعادها إلى قاعات صغيرة أو فيافٍ بعيدة.
لقد فاز المصباح بالمرتبة الأولى في الانتخابات، وفاز حصاد والضريس بميدالية تنظيم أسوأ انتخاب في العهد الجديد، وخسرت بلادنا لحظة فرح جماعي بتنظيم انتخابات متقدمة على سابقاتها، بغض النظر عن أرقامها، لهذا كنت أشفق على إدريس الأزمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو يرسم يوم أمس صورة معدلة عن اختلالات العملية الانتخابية، متجنبا الحديث عن الخروقات الجسيمة التي سبقت ولحقت العملية الانتخابية، وفضل الحقوقي الأول في المملكة مناقشة موضوع ضعف المشاركة في الانتخابات سوسيولوجيا ليهرب من نقاش تدخل السلطة قانونيا وحقوقيا.
كان من الممكن أن تقربنا انتخابات أكثر شفافية ونزاهة من سابقاتها من الدخول إلى نادي الديمقراطيات الحديثة، لكن هذا لم يحدث للأسف الشديد، ولولا وعي الجزء الأكبر من الناخبين، وتحرر المواطنين من الخوف، وفشل وسائل الدعاية السوداء في بلوغ أهدافها، لكانت ليلة الجمعة ليلة حزينة. من حسن الحظ أن الحكمة وجدت طريقها إلى عقل الدولة، حيث تراجعت في اللحظة الأخيرة عن التلاعب الكلي بالانتخابات، ووقفت عند عتبة تحجيم المصباح وليس إطفاء نوره، لأن كلفة الخيار الثاني كانت مرتفعة الثمن.
لقد كان لافتا للانتباه صمت الداخلية عن إعلان النتائج تلك الليلة وتأخرها إلى ما بعد خروج بنكيران ليزف لأنصاره بشارة فوزه في الانتخابات، وكان لافتا أكثر وجود وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، خلف بنكيران وليس إلى جانب حصاد في اللجنة المركزية لتتبع الانتخابات.
إن الوضع يشبه النظر إلى صورة فنية معلقة في معرض فني، كلما ابتعدت إلى الوراء وقارنت بين الصورة وأخواتها اتضح لك جمالها، وكلما اقتربت منها وتطلعت إلى جزئياتها اتضحت لك عيوبها… الأمل الآن في أن تصلح التركيبة الحكومية المقبلة أخطاء الاقتراع، وأن يحصل أغلبية المغاربة على الحكومة التي يريدونها، والوزراء الذين يستحقونهم، والسياسات العمومية التي تخدم مصالحهم، وهذا أضعف الإيمان.