بقلم : توفيق بو عشرين
صار لشهداء انتفاضة 81 قبرا وعنوانا وشهادة وفاة، خرج الضحايا من النسيان والإنكار والعتمة التي وضعوا فيها حتى يبقى ضمير الجلاد مرتاحا. ألا يقولون إن صوت الدم دائما أقوى.
مضت 35 سنة على قتلهم بالرصاص الحي في شوارع الدار البيضاء، لأنهم خرجوا يحتجون على قرار حكومة المعطي بوعبيد، القاضي بالزيادة في المواد الغذائية، لكنهم عادوا بعد أن ظلوا حبيسي مقبرة جماعية سرية داخل باحة الوقاية المدنية، عادوا لإدانة الدولة والسلطة والبنادق التي أطلقت الرصاص الحي وبطريقة عشوائية غالبا. عاد الشهداء لينتقموا لكرامتهم التي حاول وزير الداخلية السابق إدريس البصري المساس بها وهم بين يدي الله عندما أطلق عليهم في اجتماع بولاية الدار البيضاء لقب (شهداء الكوميرا) تنقيصا من القضية التي خرجوا من أجلها، وهي الخبز بعد أن رفعت الحكومة أسعار جل المواد الاستهلاكية إلى حد غير مقبول وصل أحيانا إلى 77 ٪…
لكن أخطر من إطلاق الجيش الرصاص الحي في الشوارع وقتل المئات وفيهم نساء وأطفال وشبان لم يشاركوا في الأحداث ولا اقتربوا من ساحتها، وأخطر من رمي المعتقلين في الكوميساريات والمقاطعات دون أكل أو شرب أو رعاية حتى اختنقوا هناك وهم في عهدة الدولة بدون محاكمة ولا سؤال ولا جواب، وأخطر من رفض الدولة تسليم جثث الشهداء إلى ذويهم ودفنها في قبور معلومة الهوية، وأخطر من امتناع الدولة عن فتح تحقيق قضائي أو سياسي لمعرفة ما جرى في ذلك اليوم الأسود… أخطر من كل هذا ما قاله الملك الحسن الثاني بعد أسبوعين من الأحداث في عيد الشباب يوم 9 يوليوز 1981، حيث قال في استخفاف بحياة الناس وكرامة المواطنين: (ليس هناك حي من تلك الأحياء التي عرفت الأحداث حي بيضاوي أصيل، فهل يخطر ببالنا أن ساكن درب غلف يذهب ليحرق حانوتا هناك، إنه ولد هو وأبوه فيه، وهل ساكن شارع المقاومة أو شارع المعاريف يضرم النار في المتاجر لا لا.. أولئك السكان البيضاويون يحبون أحياءهم مثلما يحبون أنفسهم، فأين وقع الشغب؟… الذين قاموا بالأحداث وأضرموا النار جاؤوا من البادية حيث لم تعط لهم الوسائل ليبقوا مستقرين هناك). إن الحسن الثاني هنا يقول بطريقته ما قاله القذافي لليبيين الذين خرجوا على سلطته قبل خمس سنوات (من أنتم أيها الجرذان؟). في الظاهر يبرئ الملك الراحل البيضاويين لأنهم يسكنون مدينة كبيرة وبعضهم منخرطون في أحزاب ونقابات المعارضة آنذاك، وهو يخاف من ردود فعلهم، لكن في الباطن يحتقر مواطنين آخرين قادمين من البادية وكأن حياة البدوي أرخص من حياة المديني… إنها صفحات سوداء من سياسة المملكة التي كان رئيس الدولة فيها يقول لشعبه: (أستطيع أن أتخلى عن الثلثين وأعيش مع الثلث الذي يرضى بحكمي). ملك قال عن الريفيين: (أوباش يعيشون من التهريب) وهدد المراكشيين (بخلاين داربوهم)…
إذا كانت الأسر الصغيرة (عائلات الضحايا) والأسرة الكبيرة (الوطن) قد اختارا معا الصفح والغفران وعدم ملاحقة الجلادين، وبعضهم مازال حيا وطي الصفحة بعد قراءتها في سياق عدالة انتقالية، فهذا صفح مشروط وغفران له دفتر تحملات، وأولها عدم تكرار ما جرى وتوفير الضمانات قانونية وسياسية ومؤسساتية وقضائية للحفاظ على حياة وكرامة البشر والاحتكام للقانون ولا شيء غير القانون، ثانيا اعتذار الدولة الصريح والعلني للضحايا وعائلاتهم لأن في اعتذارها اعترافا بالخطأ والتزاما سياسيا وأدبيا بعدم الرجوع إلى ما كان، ثالثا، جبر الضرر وتعويض المنكوبين بآلة القمع والبطش، رابعا، تدشين إصلاحات عميقة لتغيير الجوهر الاستبدادي للدولة وجنوح المؤسسات الأمنية والعسكرية فيها خارج منطق الحق والقانون…
في كل هذه الالتزامات لم تف الدولة إلى الآن سوى بالبند السهل نسبيا، وهو تعويض الضحايا ماليا والكشف عن مصير الضحايا وتنصيب لوحات تذكارية لهم، وتنصيب مجلس وطني لحقوق الإنسان مكلف بمتابعة توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، متابعة بدون سقف زمني ولا نقطة نهاية… وحتى بعض الإصلاحات التي دخلت إلى النص الدستوري والقانون الجنائي، فإنها نصوص تتعرض في التطبيق اليومي لمفاوضات عسيرة، وغالبا ما ينتصر الطبع القديم على التطبع الجديد، لأن أجهزة الدولة وسياساتها لم تسلم بعد بثوابت ومرجعية حقوق الإنسان. إننا مثل ذلك الذي يسكن بيتا لكنه بيت للكراء لا يملكه ولا يتوفر على ثمنه، وبالتالي يمكن أن يُطرد منه في أية لحظة ليجد نفسه وقد رجع إلى السياسات القديمة، هكذا يبدو البيت الحقوقي للمغرب، وللأسف الشديد يلعب المجلس الوطني لحقوق الإنسان أدوارا ملتبسة في هذه السياسة، حيث يعطي لأطراف في السلطة مبررا للاستمرار في انتهاك حقوق الإنسان بدعوى أن في البلاد مجلسا وطنيا لهذه الحقوق غيورا عليها؟ وهو بذلك لا يلعب دور المساهمة في فطم الدولة على خرق حقوق الإنسان وتغيير جوهرها السلطوي مع آخرين، بل يلعب المجلس دور إحداث التوازن في لعبة تستمر في الاشتغال بنفس الأساليب القديمة تحت شعار: (كل واحد يدير شغلو). فالمجلس مثلا، وعلى لسان رئيسه إدريس الأزمي، اعترف في البرلمان بأن السلطة مسؤولة عن قتل مناضل العدل والإحسان كمال العماري في آسفي إبان تظاهرة 20 فبراير، لكن وزارة العدل والحريات والنيابة العامة ووزارة الداخلية لم يتحركوا لمحاكمة المسؤولين عن المساس بحياة مواطن مغربي دمه في عنق الدولة ومسؤوليها…