بقلم : توفيق بو عشرين
انطلقت الحملة الانتخابية للرئاسيات الفرنسية باكرا هذه المرة، وكأن باريس تقلد واشنطن التي تعرف أطول سباق نحو البيت الأبيض. مع الدخول السياسي لهذه السنة، أخرج مرشحو اليمين واليسار في فرنسا جل أسلحتهم، وانتشرت الكتب والبرامج والحوارات التلفزية والمقالات، التي يشرح فيها كل مرشح برنامجه ورؤيته لحل مشاكل فرنسا الداخلية والخارجية، لكن الملاحظ أن جل البرامج والخطابات الموضوعة على الطاولة الفرنسية شبه خالية من الإيديولوجيا، حيث تنزاح المرجعيات الفكرية بين اليسار واليمين، وتتقدم الحلول التقنية والبرغماتية للمشاكل، بعيدا عن الاختيارات الكبرى التي تغير جذريا مسار الدولة والأمة.
عندما توفي الجنرال الفرنسي، شارل دوغول، كتبت أكثر من صحيفة فرنسية عنوانا مثيرا يقول: «la France est veuve» (فرنسا أصبحت أرملة). اليوم لا تستطيع أي صحيفة أن تكتب مثل هذا العنوان عن وفاة أي شخص، مهما كان وزنه، وإلا تعرضت للاستهزاء والنقد، ليس لأن أمثال الجنرال دوغول لم يعودوا موجودين فوق الأرض الفرنسية، ولكن لأن ارتباط الناس بالقادة السياسيين تغير بفعل تفكيك القيم التقليدية التي كانت تحيط رجال الدولة بهالة من العرفان، وتحيط الوطنية بهالة من التقديس… اليمين كما اليسار تغيرا في فرنسا وفي كل أوروبا، ما عاد اليمين يحمل الفكرة نفسها عن الوطن والقومية ومكانة بلدانهم في العالم، وما عاد اليسار يتشبث بالثورة والتمرد على كل شيء، مازال اليمين محافظا لكن دون نوستالجيا، ودون تعصب في الغالب، ودون بحث عن الريادة في عالم صار بلا حدود، ومازال اليسار يبحث عن المساواة والحرية والحقوق الاجتماعية، لكنه يبحث عن التغيير في قراءة جديدة لنمط الإنتاج الرأسمالي، لا في الكتب الماركسية القديمة وبيانها الشيوعي، ونمطها اللينيني أو الماوي…
العالم يتغير، ومعه تغيرت منظومة القيم السياسية، وتمثل البشر للإيديولوجيات القديمة والحديثة. نعم، يوجد يمين متعصب يحظى، بين الفينة والأخرى، بتأييد الجمهور الغاضب، لكن، لا أحد يعتقد جديا أن هذا اليمين المتعصب يصلح بديلا للحكم. الناس يصوتون لهذا اليمين المتعصب خوفا من المهاجرين، أو من البطالة، أو من العولمة الزاحفة على الحدود والخصوصيات والثقافات، تماما كما اليسار الثوري اليوتوبي سيبقي على وجوده، وسيواصل التحرك يمينا ويسارا، لكنه لا يشكل رهانا للكتلة الحرجة من الطبقات الوسطى. اليسار الراديكالي لا يخرج عن كونه تعبيرا عن الغضب من التفاوتات الاجتماعية الصارخة، ونفوذ الرأسمال المتزايد، وسلطة الشركة والسوق، والعولمة التي حولت المواطن إلى مستهلك، والإنسان إلى بضاعة، والوطن إلى سوق… لكن اليسار الثوري لم يعد يرفع شعار ماو تسي تونغ: «اشنق آخر رأسمالي بأمعاء آخر قِس». أبدا، اليسار الثوري، كما اليمين المتعصب، كلاهما يحتكم إلى صناديق الاقتراع، كلاهما يداهنان الجمهور، كلاهما يتملقان الشعب.
هل هذا يعني أن العالم الغربي دخل إلى عهد الفراغ الإيديولوجي، وأن لا شيء موجود على الطاولة؟ أبدا، الغرب يعج بمشاريع جديدة تنهض، وأخرى قديمة تنهار، وهو أبعد ما يكون عن نبوءة نهاية التاريخ، التي أطلقها فوكوياما وانسحب إلى الظل تاركا أطروحته في عهدة المحافظين الجدد في أمريكا، الذين ترجموها إلى هيمنة مقيتة وأحادية القطبية في عالم متعدد ومتغير.
هناك المشروع الديمقراطي الكبير الذي يسمح لكل المشاريع بالتعبير عن ذاتها، وبل والذي تحت خيمته يمكن أن تجتمع مشاريع سياسية كبرى في حكومة واحدة، أو في برلمان واحد، أو في مؤسسات واحدة، أو في قرار كبير واحد… لم تعد النخب السياسية في الغرب تفكر في السياسة على منوال «النموذج المثال»، الذي يرسمه المنظرون في عقولهم وفي فكرهم، ويسعون إلى تنزيله على أرض الواقع، مهما اختلفت تضاريس هذا الواقع وبيئته وخصوصياته وإكراهاته. صار الساسة، بفعل اتساع المشاركة في القرار، وتطور الممارسة الديمقراطية، وانتشار وسائل الاتصال والتواصل، أكثر برغماتية (بالمعنى الإيجابي لها لا بالمعنى الانتهازي)، فالصحة، مثلا، والتعليم والبيئة والشغل والتأهيل المهني، والوقاية من الأمراض والحوادث والكوارث، والزيادة في الدخل، وتطوير المدن، والصناعة، ووسائل النقل… كلها قضايا وأوراش تحتاج إلى القليل من السياسة والكثير من التقنية، القليل من الإيديولوجيا، والكثير من الإبداع والدراية والانفتاح على العصر والابتكار والمواهب… لو عاش ماركس حتى رأى العمال في مناجم بريطانيا يصوتون للمحافظين، والفلاحين الفرنسيين يصوتون لليمين البرجوازي، والأغنياء الإيطاليين يصوتون لليسار، والشباب الغاضب في الجامعات يصوت لليمين المتعصب، لسقط من الكرسي الذي يجلس عليه، ولفهم أن صراع الطبقات ليس قاعدة، وأن الديمقراطية غيرت من قواعد اللعبة.