بقلم - توفيق بو عشرين
كانت فكرة التمايز في الوظائف والرموز والخطاب، والفصل المرن بين الدعوي والسياسي، اجتهادا فريدا من نوعه في العالم العربي، أقدمت عليه حركة التوحيد والإصلاح، من أجل وضع مسافة، ولو قصيرة، بينها وبين حزب العدالة والتنمية، وهذه الفكرة أعطت مساحة عمل مهمة ومرونة واسعة للحركة والحزب معا، باعتبار أن عمل الحركة يندرج في سياق ما يجب أن يكون، وعمل الحزب يندرج في سياق ما هو ممكن، الحركة تشتغل في حقل الإيديولوجيا الثابتة، أما الحزب فيشتغل في حقل السياسة المتحركة، وهذا حقل يدبر الإكراهات غالبا، ولا يصرف الاختيارات دائما، لكن هذه الصيغة للتعاون بين الحركة والحزب استنفدت أغراضها، وأصبح المطلوب اليوم، وقد صار الحزب في قلب العمل الحكومي والسياسي، هو تحرر الحركة من الارتباط بالحزب، حتى لا تضره ولا يضرها، وحتى تصير حركة التوحيد والإصلاح حركة مدنية منفتحة على كل الأطياف المجتمعية والسياسية، وليست ذراعا دينيا لحزب سياسي، أو غرفة قيادة دعوية لتنظيم حزبي.
إذا كان قادة الحركة مقتنعين بأن مجالهم الطبيعي هو الاشتغال على القيم في المجتمع المدني، وعلى ترشيد التدين والدفاع عن المحافظة، فعليهم أن ينفتحوا على كل الأحزاب السياسية والحكومات المتعاقبة، من أجل بناء شراكات مع الجميع، وفي مقدمتهم الدولة، باعتبار أن الأخيرة هي التي تحتكر تدبير الشأن الديني الرسمي…
النظام الديمقراطي الحديث يفصل بدرجات بين الشأن الديني والشأن السياسي، وهنا نحن أمام نموذجين كبيرين؛ الأول نموذج علماني متطرف، هو النموذج الفرنسي الذي لا يفصل فقط بين الديني والسياسي، بل يعمد إلى طرد الدين من الدولة والمجتمع، ومحاصرته في أضيق نطاق، وهذه العلمانية الصلبة لها ظروف تاريخية تحكمت في ولادتها. وهناك علمانية أخرى رخوة أو لينة تتعايش مع الدين، وتجعل من الدولة طرفا محايدا تجاه الدين أو الأديان المختلفة، في نوع من الاعتراف المتبادل بين المجالين السياسي والديني.
هذه العلمانية هي المطبقة، مثلا، في إنجلترا وأمريكا وبلدان أخرى لا تحمل مواريث الصدام العنيف بين الكنيسة والدولة. في أمريكا آلاف الكنائس الخاصة تعبر عن نفسها في الإعلام والمجتمع، وتتحدث في كل القضايا القيمية التي تهم حياة الأمريكي، لكنها تفعل ذلك باسم أتباعها وليس باسم الله، وتناضل من أجل التأثير في القرار، وليس من أجل تسلم السلطة، وتحاور كل الفاعلين، ولا تملك ذراعا حزبيا، ولا فريقا برلمانيا، ولا تأثيرا نقابيا، ولا فصيلا طلابيا. هناك واقعتان لافتتان في علاقة الحركة بالحزب وقعتا في السنة الماضية؛ الأولى أن جل أعضاء المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح وقفوا ضد تمديد ولاية بنكيران مرة ثالثة، وهؤلاء لا يلبسون قبعة العضوية في المجلس الوطني للحزب فقط، بل يلبسون أيضا قبعة المكتب التنفيذي للحركة التي تتمتع بنفوذ إيديولوجي في الحزب، حيث ذابت نظرية «التمايز» في لحظة واحدة، وتحول الحزب إلى ملحقة للحركة.
وهكذا اكتشفنا أن جل مؤتمري الحزب في مؤتمره الأخير أعضاء في الحركة، مع أنهم لا يمثلون سوى 20% من أعضاء الحزب، كما اكتشف الجميع أن الحركة تضع ضرورات الحفاظ على الدعوة فوق التزامات الحزب مع ناخبيه، وكان ذلك بمناسبة الجدل الذي دار في الحزب بعد إقالة بنكيران، والخوف من احتدام الصراع بين قيادة الحزب وبعض الأطراف في الدولة، وأصبحنا وكأن الحركة، في غفلة من الجميع، استرجعت الحزب، وبسطت ولايتها عليه، وكأن مليوني ناخب الذين صوتوا للعدالة والتنمية في انتخابات أكتوبر على أساس برنامج انتخابي، وعلى أساس تعاقدات سياسية، جرى تصريفهم إلى عملة سياسية لشراء السلم مع الدولة، لصالح حركة عبد الرحيم الشيخي الخائفة على مكاسب الدعوة، وعلى خريطة جمعياتها ومشاريعها، دون أن تخاف على مستقبل الديمقراطية، ومخاطر تهديد الاستقرار بالعودة إلى السلطوية (يذكر هذا الموقف إلى حد ما بتحالف الإخوان المسلمين مع العسكر بعد الإطاحة بمبارك، وتنكرهم للشارع فجأة عندما قبل بهم المجلس العسكري، قبل أن ينقلب عليهم وينكل بهم).
الحدث الثاني الذي كشف «خطورة» استمرار الشراكة الاستراتيجية بين الحركة والحزب، يكمن في أن أطراف الصراع الداخلي بدأت تستعمل اسم الحركة الدعوية، وثقلها الإيديولوجي والبشري، وعناصرها الموجودة في الحكومة والجماعات المحلية والبلديات ومؤسسات الحزب، عناصر قوة لترجيح كفة على أخرى.
رأينا قبل المؤتمر الثامن أن بنكيران اختار أن يضم محمد الحمداوي، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح والذي مازال يتمتع بنفوذ في الحركة، إلى الأمانة العامة للحزب في اللحظات الأخيرة، قبل الذهاب إلى المؤتمر، وذلك لإحداث توازن أمام تيار الوزراء الذي تكتل في بلوك واحد داخل الأمانة العامة للمصباح، باستثناء مصطفى الخلفي الذي ظل يغرد خارج السرب، والشيء نفسه فعله العثماني، دقائق بعد فوزه أمينا عاما للحزب بفارق بسيط عن منافسه، حيث عرض على الحمداوي، حديث العمل بالسياسة والتنظيم الحزبي، منصبا كبيرا، وهو النائب الأول له في قيادة الحزب، لكن الأخير اعتذر عن تحمل هذه المسؤولية، فاقترح يتيم، لكنه لم يحظ بموافقة المجلس الوطني، فرجعوا إلى «الجوكير» سليمان العمراني الذي يشتغل مع أي أمين عام كيفما كان.
الحزب مهمته سياسية، وشرعيته تأتي من صناديق الاقتراع، وهويته يحددها أعضاؤه الذين لا يمكن أن يجمع قادتهم، على الأقل، بين مناصب قيادية في الحزب وفي الحركة وفي الحكومة وفي الدعوة. هذا ليس تمايزا.. هذا توزيع أدوار لا يخدم ولن يخدم، على المدى المتوسط، لا الحزب، ولا الحركة، ولا الديمقراطية المعطوبة في البلاد، والله أعلم.