بقلم : توفيق بو عشرين
عندما كان رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، يستمع إلى مداخلات رؤساء الفرق النيابية بمناسبة نقاش برنامج الحكومة، كانت هناك سيدة مسنة جاءت من القنيطرة تحاول الانتحار في شارع علال بن عبد الله بالرباط، حيث لم يكن يفصلها عن البرلمان سوى عشرات الأمتار. سيدة، عِوَض أن تحمل ملفها الاجتماعي وتتوجه إلى الإدارة أو المحكمة أو البرلمان… تركت كل هذا، واختارت عمودا كهربائيا للانتحار، عنوانا على يأسها وإحباطها في مغرب لم تعد تنفع فيه مقولة: ما ضاع حق وراءه مطالب.
كان المواطنون في الماضي يشدون الرحال إلى العاصمة من أجل نيل حقوقهم، أو إسماع أصواتهم على الأقل، على أمل أن يجيء الفرج. اليوم أصبح بعض المواطنين يقصدون الرباط للانتحار، عل موتهم يكون له مكبر صوت يصل إلى آذان الدولة التي لم تعد تشعر بمعاناة الفئات الهشة، لأنها مشغولة بهندسة الحكومة، وتدجين الأحزاب، وترتيب البيت السلطوي.
لقد كانت مداخلة رئيس الفريق النيابي لحزب العدالة والتنمية، في مناقشة البرنامج الحكومي في البرلمان، مليئة بالرسائل السياسية إلى كل من يهمه أمر ميلاد حكومة العثماني، حيث أشار إدريس الأزمي إلى أن حزبه يدعم الحكومة من باب الخضوع للأمر الواقع، فقال: «لا بد أن نعترف بأن مسار تشكيل الحكومة بالنسبة إلى الحزب كان مسارا صعبا وشاقا ومكلفا، ولكنه كان محكوما بمنهجية واضحة كان عنوانها الأساس هو الحرص على الحفاظ على كرامة المواطن، وصيانة الإرادة الشعبية، وتعزيز البناء الديمقراطي»، ولكي يفسح المجال للألم الذي ألم بالحزب أن يخرج بعض منه إلى السطح، قال الأزمي، الذي حظي بمباركة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ليقود مرحلة المساندة المشروطة للحكومة: «لقد كان إعفاء الأمين العام، الأستاذ عبد الإله بنكيران، حدثا مؤلما، لاسيما بالنظر إلى دوره الإصلاحي القيادي والأساسي، وفي ظل ما حصل عليه الحزب من نتائج، وصموده لما يناهز ستة أشهر صونا لكرامة صوت المواطنات والمواطنين… وقلبنا بعد ذلك يمنة ويسرة هذا القرار، والمعطيات والضغوطات التي يتعرض لها حزبنا في ظل مناخ دولي وإقليمي ووطني صعب، ووجدنا أنفسنا أمام خيارين اثنين فاصلين وحاسمين أحلاهما مر؛ إما أن نعتذر عن المشاركة، وإما أن نواصل المشاركة بإصرار وثبات وأمل، رغم كل التحديات والمعوقات».
هكذا وضع الحزب النقاط على الحروف، واختار أن ينحني للعاصفة على أن يدخل في مواجهة مفتوحة مع السلطة حول شروط تشكيل الحكومة، وحول استقلالية القرار الحزبي، وحول تداعيات الإطاحة بالزعيم، وحول استئثار أحزاب الإدارة بالمناصب المهمة في الحكومة، وحول خلط الأوراق في المشهد الانتخابي، وتجميع أجزاء «بام» جديد حول أخنوش، مكون من الاتحادين الدستوري والاشتراكي والحركة الشعبية، بعد إعلان نتائج الاقتراع، من أجل امتصاص فوز المصباح، والتلاعب بنتائج الاقتراع بعديا وليس قبليا.
حزب العدالة والتنمية حزب محافظ، وجل زعاماته تتصرف كقيادات دعوية وليس كزعماء سياسيين، ولهذا ما يهمهم بالدرجة الأولى هو الحفاظ على «بيضة الجماعة» وليس أحلام وتطلعات الأمة، لكن، مع ذلك، فإن الحزب، وتحت ضغط الشباب داخله والرأي العام خارجه، يعبر اليوم عن عدم اقتناعه بشرعية حكومة العثماني، وعدم قبوله بالضغوط السياسية التي تعرض لها، ومن ثم، فإنه قرر أن يقاوم بطريقته لتقليل الخسائر، والحفاظ على وحدة الحزب، والبداية بأخذ مسافة من حكومة لا تمثله، أو لا تمثل الحقيقة السياسية كما خرجت من صندوق الاقتراع. وأخذ المسافة هذا معناه أن الفريق البرلماني لن يكون جهازا للتصويت الأوتوماتيكي على مشاريع القوانين، كما أن الحزب لن يوقع شيكا على بياض للعثماني وأصحابه في الحكومة.
وثاني تعبير عن «ممانعة» المصباح تجاه عملية التجريف الكبيرة التي يتعرض لها، هو البحث في المؤتمر المقبل عن طريقة لفصل قيادة الحكومة عن قيادة الحزب، الذي يعتبر الأداة الأهم للإصلاح في الظرفية الحالية… بعدما تعرضت بيوت الأحزاب الكبيرة لخراب مدمر، ولم يعد من حزب في البلاد، بعد حزب العدالة والتنمية، إلا حزب الدولة الذي يتخذ أشكالا وألوانا حسب الظروف والأحوال.
إن إقفال قوس الربيع المغربي كان يتطلب أحد أمرين؛ إما تغيير الدستور، الذي كتب قبل خمس سنوات فوق ميزان القوى الذي كان في صالح الشارع، وإما تغيير الفاعلين السياسيين المرشحين للاستفادة من توزيع السلط الجديدة في الدستور، والتحكم في الهوامش المتاحة أمامهم، ويبدو أن القرار استقر على الحل الثاني.