بقلم - توفيق بو عشرين
كما كان متوقعا، مر اجتماع الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية عاصفا ومتوترا بين الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران، ومن معه، ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، ومن معه، حيث ظهر أن هناك خلافا «عميقا» حول طريقة مشاركة الحزب في الحكومة، وحول أدائها خلال مدة الشهرين والنصف التي انقضت من عمرها، وطبعا، حول حراك الريف التي شكل ضربة قاصمة لحكومة أبريل.
لكن الحزب، وبسبب غريزة البقاء وحماية وحدة الصف، حاول أن يصدر أزمة تشكيل الحكومة إلى الجهات السلطوية التي لم تراعِ روح انتخابات أكتوبر، وتسببت في بلوكاج قاتل، كان من أسبابه الإطاحة برأس بنكيران، وتشكيل أغلبية مخدومة، انتهت إلى إدخال الاتحاد الاشتراكي إلى الحكومة ضد رغبة البيجيدي، وأعقبها إعطاء أخنوش وزنا وزاريا أكبر من حجمه الانتخابي في الحكومة.
حاول أقطاب الحزب الإسلامي أن يتصرفوا كماركسيين، ويقتبسوا التصنيف التقليدي للتناقضات بين الرئيسي والثانوي، فاعتبروا أن تناقضهم الرئيس ليس مع إخوانهم، ولكن مع من تلاعب بانتخابات أكتوبر (التحكم)، أما التناقض الثانوي فهو مع إخوانهم الأربعة الذين كانوا يفاوضون على تشكيل الحكومة (العثماني الرميد، يتيم والداودي)، ولم يوفقوا في المهمة. هكذا جرى تخفيف التوتر الذي كان محتبسا في جوف الحزب يهدد بتفجيره، خاصة بعد انتشار أخبار عن وجود «خيانة» من داخل الحزب التقت مع إرادة للتخلص من بنكيران، أو قل إن «طابورا خامسا» سهل عبور التحكم نحو النيل من قيادة الحزب، وهو الاتهام الذي يرفضه الرميد والعثماني باستمرار (الطابور الخامس مصطلح عسكري وقصته ولدت مع الجنرال فرانكو، الذي سئل عن خطته لاجتياح مدريد إبان الحرب الأهلية، فقال: «سأهجم بخمسة طوابير (فرق)»، فقالوا له: «الذي نعرفه أن جيشك مشكل من أربعة طوابير فقط، فأين الخامس؟»، فقال: «الطابور الخامس موجود في قلب مدريد، أي في الداخل، وسيتحرك في الوقت المناسب»، ومنذ ذلك الوقت صار الطابور الخامس يعني المندسين من الداخل، الذين يسهلون مأمورية العدو الخارجي).
لكن هذه القفزة السياسية إلى الأمام لم تمنع ظهور خلافات عميقة حول أداء فريق العثماني، ففي حين يرى القادة غير المستوزرين أن الحكومة خرجت من الخيمة مائلة، وأن أداءها ضعيف لأن مشروعيتها ناقصة، وأن الشارع لا يؤيدها، وأن الحزب يؤدي ضريبة كبيرة من رصيده ومن مصداقيته إن هو بقي يمشي وراءها دون قيد أو شرط، ولكي يقدموا الدليل على كل هذا التشخيص، يخرجون ملف حراك الريف، وكيف سمح العثماني لوزير داخليته بالتلاعب به، وجره إلى تخوين المتظاهرين، وما أعقب ذلك من إعمال غير موقف للمقاربة الأمنية التي عقدت الملف… هذا في حين يرى العثماني وأصحابه من الوزراء في الأمانة العامة للحزب أن الحكومة جاءت في ظرفية صعبة، وأن رئيسها غير متفق مع المقاربة الأمنية التي اعتمدت لمواجهة الحراك، لكنه لا يستطيع الكلام بحرية، وأن هناك إصلاحا للأخطاء التي ارتكبت في ملف الريف، وأن السبب الذي يجعل الرأي العام غير متحمس لهذه الحكومة هو أن الحزب لا يدافع عنها، بل، بالعكس، يشوش بعض قادته على أدائها، ويضعفون إخوانهم في الجهاز التنفيذي، وهؤلاء لا يتواصلون لكي لا يعمقوا الخلاف وسط الحزب، وحتى تبقى بيضته مصانة.
انتهى اجتماع الأمانة العامة للحزب دون إصدار بلاغ، وهذا يعكس، من جهة، استمرار الخلافات وسط قادة الحزب حول الطريقة التي سيتعامل بها المصباح مع حكومة العثماني، ومن جهة أخرى، لوجود خلاف حول المخرج من حراك الريف. ففي الوقت الذي يرى بنكيران ومن معه أن الحل يبدأ من إطلاق سراح المعتقلين، يرى العثماني أن الحل يبدأ من نهاية الاحتجاجات، وبعهدها يمكن أن يأتي «الانفراج والعفو وما يتبعه»، لكن أهم قرار خرج من اجتماع الأمانة العامة للحزب، الذي يقود الحكومة وجزءا من الرأي العام في الوقت نفسه، هو إلحاق أربعة أسماء بالأمانة العامة للحزب باقتراح من بنكيران، وهم: جامع المعتصم، عبد العزيز العماري، محمد الحمداوي وسعيد خيرون، فيما من المرجح إضافة ثلاثة أعضاء آخرين في المستقبل. بنكيران، كعادته، لم يخفِ الهدف من وراء إلحاق هؤلاء بالجهاز التنفيذي للحزب، الذي يعيش آخر أيامه قبل عقد المؤتمر، إذ قال إن الغرض من هذه الخطوة هو إحداث التوازن في تركيبة الأمانة العامة للحزب، التي صار جل أعضائها وزراء، وضم قيادات أخرى للاستفادة من تجربتها ومن احتكاكها بالمجتمع وقضاياه. القرار لم يرضِ الجميع لأنهم رأوْا فيه تغييرا لموازين القوة سيكون له تأثير على مخرجات المؤتمر الوطني، لكنه مر بالأغلبية المطلقة عن طريق التصويت السري.
هذه المبادرة ليست تنظيمية بل هي سياسية بالأساس لها معانٍ عدة:
أولها: أن بنكيران رجع للإمساك بدفة قيادة الحزب بعدما استوعب صدمة الإطاحة به من رئاسة الحكومة، ولم يقبل «الزعيم» بتقاعد قسري، وأظهر أنه باعتباره قائد الحزب سيبقى في مكانه إلى أن يعقد المؤتمر المقبل نهاية هذه السنة، وهذا الأخير هو الذي سيقرر مصير كل شيء.
ثانيا: عملية إلحاق وجوه جديدة بالأمانة العامة في شهورها الأخيرة معناه الاعتراف بوجود مواقف مختلفة، وحتى متناقضة، مبنية على موقع كل عضو، فالوزير يتأثر رأيه، في الغالب الأعم، بالحقيبة التي يحملها، والمناضل يتأثر رأيه بالموقع الذي يوجد فيه، لذلك، مادام القرار يحسم بالتصويت، فإن تركيبة الأمانة العامة وعدد المستوزرين فيها يلعبان دورا مهما.
ثالثا: من كل ما سبق يبدي حزب العدالة والتنمية مقاومة جلية، مفادها أن الحزب لا يريد أن يذوب في حكومة لم يشكلها، ولا يريد أن يحترق في مرحلة لم يسهم في صياغة عنوانها. هو لا يريد إضفاء مشروعية على قرار تدمير نتائج صناديق الاقتراع، وهو يشبه تلك البنت التي زوجها والدها قسرا من عريس لا تريده، فلم تستطع أن تقاوم كتابة عقد الزواج، لكنها تستطيع أن تقاوم النكاح في الفراش حتى يأتي الفرج من السماء.