برنامج حكومي بدون روح سياسية

برنامج حكومي بدون روح سياسية

المغرب اليوم -

برنامج حكومي بدون روح سياسية

بقلم : توفيق بو عشرين

برنامج حكومي بدون نفس سياسي. برنامج تقنوقراطي يلقيه رئيس حكومة ملتحٍ. برنامج الاستمرارية بدون بنكيران… كلها جمل صالحة لتكون عنوانا للتصريح الحكومي الذي قدمه، أول أمس، سعد الدين العثماني أمام البرلمان للحصول على ثقة منتخبي الأمة.

لم يجد العثماني لمسة سياسية يضعها على برنامج صاغته لجنة فيها ممثلو ستة أحزاب، عبؤوا البرنامج الحكومي بكل ما وجدوا من جمل مفيدة، ونوايا حسنة، وأرقام كبيرة وصغيرة، ومشاريع قديمة، وإجراءات براقة… ثم غلفوا كل هذا في وعود عامة وقدموها لبرلمان يعرف الجميع أنه لا يقدم ولا يؤخر.

لنعطِ أمثلة عن غياب الرؤية السياسية في برنامج الحكومة «العثمانية». نظامنا السياسي يعاني عطبا كبيرا اسمه «النظام الانتخابي». هذا النظام يفرغ العملية الديمقراطية من جوهرها، ويبلقن المشهد السياسي بين عشرات الأحزاب، ويسمح للأحزاب الطفيلية بالانتعاش بدون مبرر منطقي، ويضعف الأحزاب الكبرى، ويحد من تمثيليتها، ويطلق يد المال السياسي في إفساد إرادة الأمة، ويديم لعبة التوازنات الانتخابية التي لا تنتج تناوبا واضحا، ولا حكومة مسؤولة، ولا رؤية لتدبير الشأن العام، ومن ثم، تصبح الحكومات الائتلافية ثابتا دستوريا، وتصبح البلقنة الانتخابية ركيزة أساسية لاشتغال النظام، يتعذر معها ربط المسؤولية بالمحاسبة، والنتيجة هي ضعف المشاركة السياسية، وترهل الأحزاب، وفقدان الثقة في المسلسل الانتخابي… هذا التشخيص يعرفه الطبيب النفسي، وقد كان شاهدا على واحد من فصوله طيلة الستة أشهر الماضية، في ما عرف بقصة «البلوكاج»، حيث فاز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى في الانتخابات، ثم خسر بالضربة القاضية في المفاوضات، وسقط زعيمه في الطريق، وخرجت حكومة إلى الوجود لا تشبه الإرادة المعبر عنها في السابع من أكتوبر، ولهذا، كان على حكومة العثماني، التي تدعي «صيانة الاختيار الديمقراطي» والدفاع عن دولة الحق والقانون، أن تلتزم بتغيير النظام الانتخابي الذي أصبح مثل قطعة فولاذ تجر النظام إلى الأسفل، وتمنع تطوره الديمقراطي، وتعطل تطبيق روح الدستور داخله. وإذا لم يمتلك العثماني الجرأة على تبني تغيير جوهري لهذا النظام الانتخابي، فعلى الأقل كان يمكن أن يتعهد بإطلاق حوار وطني حول أفضل النظم الانتخابية التي تساعد بلادنا على الخروج من النفق الحالي، وتدشين جيل جديد من الإصلاحات السياسية، التي تواكب الإصلاحات الدستورية التي بقيت واقفة عند الباب تنتظر مؤسسات قوية وأحزابا قوية وانتخابات معبرة.

لا نريد أن نعطي أمثلة أخرى عن الغياب الرؤية السياسية لدى الحكومة، مثل مطالبتها بتصور لحل مشكلة الصحراء التي ترهق كاهل البلاد، وغيرها من القضايا السياسية الكبرى، فالحكومات في بلادنا ليست حكومات بالمعنى الدقيق للكلمة.

ليست الرؤية السياسية وحدها التي غابت عن برنامج العثماني، فقد غاب أيضا الجواب عن سؤال: كيف ستصل الحكومة إلى تحقيق أهدافها ونواياها؟ مثلا، تدعي الحكومة أنها تنوي تحقيق نسبة نمو ما بين 4,5 % و5,5% خلال الخمس سنوات المقبلة، لكنها لا تقول لنا كيف سيتم ذلك، خاصة عندما لا ينزل المطر من السماء، أو عندما ترتفع أسعار النفط، فالنشاط غير الفلاحي لا يحقق سوى أقل من 1,5 % من نسبة النمو في بلاد اقتصادها اقتصاد خدمات هش، لا ينتج مناصب شغل كثيرة، حتى عندما يحقق نسبة نمو في حدود 4,5%. الشيء نفسه يقال عن البطالة، حيث لم تلتزم الحكومة في برنامجها سوى بالحفاظ على نسبة عامة من البطالة في حدود 8,5%، في حين أن هذا الرقم لا يقول شيئا لأن البطالة في صفوف الشباب المتعلم (الكتلة الحرجة) تتجاوز اليوم 25%، وعدد الذين لا يحصلون على الشغل كل سنة يتجاوز 400 ألف، والحكومة لم تلتزم بعدد محدد من مناصب الشغل، ولم تعطِ مؤشرات مضبوطة بشأن كيفية خلق مناصب شغل جديدة في كل قطاع وبأجندة تقريبية، إن لم تكن دقيقة.

الاقتصاد المغربي يعاني ثلاثة أعطاب كبرى؛ أولها أن ثلثه، أو يزيد، غير مهيكل، ولم نلمس أي إجراء عملي في البرنامج الحكومي عن الطريقة التي ستقبض بها الحكومة على هذا القطاع، وتدخله إلى المجال المهيكل. ثانيا، يعاني الاقتصاد المغربي مشكلة اسمها «الضريبة»، حيث يتهرب البعض منها، وتهرب هي من البعض، وتطبق بطرق غير عادلة على البعض، وتتقلص هنا وتتسع هناك بدون عدالة ضريبية، وهذا مشكل معقد جدا تتداخل فيه اعتبارات سياسية وقانونية وثقافية، لكن النتيجة أن البلاد تحرم من المليارات من الدراهم كل سنة. ثالث مشكل يعانيه الاقتصاد المغربي هو الفساد والريع الذي يخرج مشاريع كثيرة واستثمارات كبيرة وفرصا عديدة عن سكتها، فتصب في الجيوب الخاصة والحسابات الخاصة والثروات الخاصة، عِوَض أن تصب في المصلحة العامة. والمشكل أن الفساد لم يعد انحراف أشخاص، بل صار منظومة كاملة لإدارة الحكم، وله مناعة وقوة واستراتيجية للدفاع عن نفسه. وإذا كان بنكيران، بكل الأوراق الرابحة التي كانت بحوزته، قد عجز عن مقاومة الفساد، فهل سينجح العثماني، الذي يتحرك تحت سقف منخفض جدا، في فعل ذلك.

أمام هذه الإشكالات، وغيرها، لا يلمس المراقب الموضوعي وجود رؤية سياسية ونفس إصلاحي في برنامج الحكومة الحالية، بل إن تصريح العثماني أقرب إلى تعهد إجرائي يلتزم بمقتضاه بالاستمرار في الأوراش المفتوحة، وأحيانا دون قدرة على تقييمها (لم يلتزم بتقييم المخطط الأخضر الذي أكمل ثماني سنوات)، مع العلم بأن البرنامج السياسي والإصلاحي العام لحكومة بنكيران فشل، والدليل أن صاحبه لقي حتفه السياسي في الطريق، رغم أنه فاز بثقة الناخب، وحصل على تفويض للمرور إلى جيل جديد من الإصلاحات أكبر وأعمق… لكن حلمه أجهض.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

برنامج حكومي بدون روح سياسية برنامج حكومي بدون روح سياسية



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

أيقونة الموضة سميرة سعيد تتحدى الزمن بأسلوب شبابي معاصر

الرباط - المغرب اليوم

GMT 06:47 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون
المغرب اليوم - أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون

GMT 06:55 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل
المغرب اليوم - أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل

GMT 13:53 2016 الخميس ,11 شباط / فبراير

لجين عمران تروج لماركة حقائب شهيرة

GMT 17:42 2023 السبت ,16 أيلول / سبتمبر

أفكار جديدة لديكورات غرف المكاتب المنزلية

GMT 05:48 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

تعرفي على "الصيحة" الأكثر رواجاً لتصاميم مطابخ 2019

GMT 07:11 2018 الثلاثاء ,26 حزيران / يونيو

أفكار لاستخدام "أسرّة الأطفال" في المساحات الصغيرة

GMT 20:54 2018 الجمعة ,15 حزيران / يونيو

عزيز بوحدوز يطلب من الجمهور المغربي أن يسامحه

GMT 07:34 2018 الإثنين ,04 حزيران / يونيو

كوكو شانيل تبيّن حبها المتجدد لتصميم المجوهرات

GMT 02:49 2015 الأحد ,13 كانون الأول / ديسمبر

ساو باولو البرازيلي يودع الحارس الأسطورة روجيريو سيني

GMT 14:13 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

الأمير سليم يعلن خطبته على حبيبة مهند السابقة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib