بقلم ـ توفيق بو عشرين
سواء كنت مع حراك الريف أو ضده، وسواء كنت مع المقاربة الأمنية أو ضدها، سواء كنت معجبا بأداء عبد اللطيف الحموشي في إدارة الأمن والمخابرات، أو لم تكن من طائفة المتحمسين لعمله، وسواء كنت تحب عمل اليزمي في المجلس الوطني لحقوق الإنسان أو تكرهه، وسواء كنت مع التهدئة في الحسيمة أو مع التصعيد في الريف، وسواء كنت ليبراليا أو اشتراكيا أو إسلاميا أو مواليا أو معارضا أو محايدا، فلا بد أن تقف أمام المرآة وتقول، بلا تردد ولا تلعثم ولا خوف ولا حسابات ضيقة أو واسعة: لا للتعذيب، لا للمعاملة القاسية للموقوفين، لا لسب شباب الريف من «السمطة لتحت»، لا لكسر أبواب المنازل، لا لزوار الفجر للمواطنين في بيوتهم واعتقالهم بفظاظة وعنف أمام أعين زوجاتهم وأطفالهم. لا للضرب والصفع والركل وفتح الرؤوس، لا لإجبار الموقوفين على توقيع محاضر لم يقرؤوها (هذه الخروقات كلها جاءت في تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان كاملة وليست مجزأة في السياق، وليست خارج السياق).
هناك ما هو أخطر، في نازلة الحال هذه، من انفلاتات رجال أمن وتجاوزات أجهزة عمومية في حق شباب الريف.. هناك سمعة بلد وحرمة حقوق الإنسان، ومجهود سنوات من مناهضة التعذيب، ومسار عدالة انتقالية بنيت على الحقيقة والإنصاف وجبر الضرر، والاعتراف للضحايا بالظلم الذي لحقهم من قبل السياسي والشرطي والقاضي والسجان، والتزام دولة، أمام الله والتاريخ والوطن والشعب، بعدم العودة إلى سنوات الجمر والرصاص، بشهادة هيئة الإنصاف والمصالحة، والقسم على تقريرها الختامي.
الاصطدام الحاصل اليوم بين المجلس الوطني لحقوق الإنسان والإدارة العامة للأمن الوطني اصطدام «صحي» رغم مظاهره غير الصحية، ورغم أن حاملي «المجامر وراء جيلالة» انبروا للدفاع عن الأمن دون أن يقرؤوا تقرير الطب الشرعي، الذي يضم 35 صفحة، أعده طبيبان مشهود لهما بالكفاءة والنزاهة والتجرد (البروفيسور هشام بنعيش والدكتور عبد الله دامي)، وهو تقرير علمي وليس تقريرا فكريا أو فلسفيا أو سياسيا أو حتى حقوقيا يمكن الاختلاف حوله أو حول منهجيته.. إنه تقرير كتبه طبيبان التقيا 35 معتقلا في سجون الحسيمة والبيضاء، وفحصا ليس فقط أقوال المعتقلين أو مزاعمهم، بل أجسادهم ورؤوسهم، ووجدا ما يدل على صدق ادعاءاتهم بتعرضهم للتعذيب وللمعاملة القاسية، ولضروب من امتهان الكرامة،
ولهذا حررا تقريرهما وبعثاه إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي بعثه بدوره إلى وزارة العدل، التي لم تعلن الخبر حتى تسرب إلى الصحافة التي قامت بواجبها، فبدأت حرب البيانات، وبدأت قذائف البولميك «تشيّر» على من سرب ومن لم يسرب، ومن نشر ومن لم ينشر؟ وهل ما نشر أمين أم مجتزأ؟ ومن له مصلحة في التأثير على سير القضاء، الذي لم يكن يسير في هذه النقطة بالذات، حيث سبق لمحاميي المعتقلين أن صرحوا، قبل أكثر من شهر، بأن بعض موكليهم يتهمون الأمن بتعذيبهم، لكن النيابة العامة لم تتحرك، وبعض نواب الوكلاء العامين اكتفوا بفحص طبي «خفيف» للمعتقلين، انتهى إلى نفي هذه المزاعم، دون أن يأمروا بإجراء خبرة الطب الشرعي المتخصص في تعقب آثار التعذيب الجسدي والنفسي.
المجلس الوطني لحقوق الإنسان مؤسسة دستورية أوكل إليها المشرع، أي «الشعب الذي صوت بنعم على الدستور»، الدفاع عن «حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وضمان ممارستها كاملة، والنهوض بها، وصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات، أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية» (الفصل 161 من دستور 2011).
المجلس الوطني لحقوق الإنسان قام بجزء من واجبه، وما كان عليه أن ينتظر حتى تنتهي المحاكمات لأنه لو ثبت «غرام واحد» من التعذيب في حق المعتقلين لوجب إطلاق سراحهم فورا، والحكم ببراءتهم، وفتح المتابعة في حق أفراد الشرطة الذين تورطوا في المس بسلامة وكرامة المعتقلين، أيا كانت توجهاتهم ومعتقداتهم ونواياهم، وجرائمهم حتى، هذه هي شرعة حقوق الإنسان، وهذه هي مقومات دولة الحق والقانون التي تجرم التعذيب والمعاملة القاسية والمس بكرامة المواطنين.. أليس كذلك يا «أخ عصام»؟
الذين أزعجهم تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، واتجهوا إلى تسييسه، حيث تحول السؤال من: من عذب من؟ إلى سؤال: من سرب إلى من؟ وهي تقنية معروفة في تضليل الرأي العام، وإبعاده عن جوهر الأشياء. نلفت عناية هؤلاء إلى البند 21 من البرتوكول الاختياري لمناهضة التعذيب وكافة أشكال المعاملات اللاإنسانية والمهينة والحاطة من الكرامة، الذي وقع عليه المغرب سنة 2015: «لا تأمر أي سلطة أو مسؤول بإنزال أي عقوبة بأي شخص أو منظمة جراء تبليغ الآلية الوطنية لمناهضة التعذيب بأي معلومات، صحيحة كانت أم خاطئة»، وحتى ولو كانت المعلومات المدلى بها حول التعذيب خاطئة، فإن الأمم المتحدة رفعت، استثناء، التجريم عن هذا الخطأ، عفويا كان أم عمديا، لأن الخطأ في التبليغ عن التعذيب أهون من الخطأ في الصمت عن انتهاك حقوق الإنسان… نحن أمام امتحان عسير لمدونة سلوك الأمن والقضاء ودولة الحق والقانون.