بقلم : توفيق بو عشرين
أمضى 17 سنة على عرش المغرب، بحلوها ومرها.. أمضى 17 سنة يجوب المغرب شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، من أجل تدارك التأخر الاقتصادي والاجتماعي في مغرب والده.. أمضى 17 سنة في إدارة الملفات الكبرى والصغرى، حتى جاء دستور 2011 فأشرك معه ممثلي الشعب، في الحكومة والبرلمان، في إدارة جزء من الحكم. أمضى 17 سنة يحاول أن يرسم لبلاده صورة مغايرة للبلدان العربية المكبلة بالسلطوية من الأعلى، والأصولية الدينية من الأسفل. أمضى 17 سنة يتقرب من الفقراء والمهمشين من أجل إعادة الاعتبار إليهم، والدفع بهم إلى الاندماج في اقتصاد مدر للدخل ومنتج للشغل. أمضى 17 سنة يتواصل مع شعبه بطريقته الخاصة.. العمل لا القول، الصورة لا الكلام. أمضى 17 سنة يحاول تحديث البنية التحتية لدولة مركزية تقاوم الجهوية واللامركزية. أمضى 17 سنة يحاول إزالة الحجر الذي وضعته الجزائر في قدم المغرب، جاعلة من الصحراء جرحا نازفا على الدوام. أمضى 17 سنة محاطا بقلة من زملاء الدراسة خريجي المدرسة المولوية، وحتى الوافدين الجدد من خارج هذه الدائرة على الديوان الملكي ظلوا ثانويين وليسوا مؤثرين في القرار، كما المجموعة الأولى. أمضى 17 سنة يدشن الأوراش، ويطلق المبادرات، ويشرف على المخططات في بلاد مازالت مؤسساتها لا تشتغل، وتحتاج دائما إلى «إرادة مولوية» للتحرك والفعل في الميدان. أمضى 17 سنة يحلم بمغرب لا يختلف عن جنوب أوروبا، لكن العين بصيرة واليد قصيرة.
هذا هو محمد السادس الذي جاء سنة 1999 إلى عرش عمره حوالي أربعة قرون، في الوقت الذي كان جل المراقبين يشكون في قدرة هذا الشاب المتحفظ على قيادة مملكة والده الذي حكم المغرب لمدة 38 سنة، وحكم المغاربة بكل فنون الحكم، من السياسة، إلى القمع، إلى الدعاية، إلى الدين. لكن الشاب الذي جاء صفحة بيضاء إلى السلطة، فاجأ الجميع بذكاء وسرعة حركته، واستطاع، في وقت وجيز، أن يحيط نفسه بإجماع القوى الفاعلة والأحزاب الكثيرة حوله وحول مشروعه، بطريقة لم تتح لوالده الذي مر بصراعات دامية لترويض اليسار ثم الجيش ثم أحزاب الحركة الوطنية… محمد السادس ما عاد ملكا شابا، ولا عهده جديدا، صار ملكا وكفى، فلا هو ملك شرقي ولا هو ملك غربي، هو بين الاثنين، يحاول أن يجرب صيغة للحكم لا تتناقض مع الديمقراطية ولا تتطابق مع السلطوية. إنه يبحث، ومعه الطبقة السياسية التي تتفرج، في غالبها، ولا تبذل مجهودات تذكر لتحديث نظام الحكم، وإبعاده عن موروثات المخزن ودولته ونمط عيشه.
ما مضى أسهل مما بقي في بلاد تعيش انتقالا ديمغرافيا كبيرا ميزته الرئيسة هي سيادة الشباب فوق الهرم السكاني للمغرب. هذا الشباب الذي يشكل فرصة وتحديا في الوقت نفسه.. هو فرصة للبناء والاستفادة من الطاقة الحيوية للعنصر البشري، وهو، في الوقت ذاته، تحد للدولة للصمود أمام اتساع حاجيات الشباب وقلة صبرهم وكثرة مطالبهم. إنه شباب يعيش زمنه ويحيا عصره، ويريد أن يقلد أقرانه في العالم الغربي المتقدم، ويريد حقوقه كاملة غير منقوصة في الحرية والتعليم والعمل والأنترنت والسكن والترفيه والكرامة.
وكل هذه الموارد محكومة بقانون الندرة وليس بقانون الوفرة في بلاد مازالت تصارع من أجل تحقيق معدلات نمو مقبولة، فما بالك بتحقيق التنمية، والفرق كبير بين النمو والتنمية، كما يعرف الاقتصاديون.
الربيع العربي في جل البلدان انفجر من هذه «العقدة» المتمثلة في العجز عن تدبير الانتقال الديمغرافي الذي يلتصق به العجز عن تدبير السلطة والثروة بما ينسجم مع الديمقراطية ومبادئ الحكامة… ولهذا انفجرت أنظمة، وتفككت دول، وغرقت مجتمعات في حروب أهلية كان من الممكن تلافيها لو تحرك الحاكمون في الوقت المناسب، وفي زمن الإصلاح الذي كان متاحا قبل أن تعصف رياح الاحتجاج بالأخضر واليابس.
نعم، في المغرب حكومة وبرلمان وأحزاب ومجالس جهات وجماعات محلية ونقابات، لكن مع كل هذا اعتاد الناس أن يدقوا أبواب القصر، مادام القصر جالسا في مركز القرار والسلطة، ومادامت الثقافة السياسية للنخبة وللشعب مازالت تقليدانية تتوجه إلى الأشخاص لا إلى المؤسسات.
إن المرونة والذكاء اللذين تعامل بهما محمد السادس قبل خمس سنوات مع شارع يغلي، وشباب يصيح ضد الفساد والاستبداد في شوارع المملكة، هما اللذان أعطيا المغرب الفرصة لتجريب طريق ثالث للخروج من العاصفة غير طريق «ارحل» الذي رفعه شباب ساحات التحرير، أو «اصمت» الذي رفعته الأنظمة المتكلسة. الطريق المغربي هو الإصلاح من الداخل، والتقدم بخطوات صغيرة، لكن آمنة. هذا الخيار يواجه اليوم مخاطر وصعوبات، فالبعض يريد أن يصنع خريطة سياسية جديدة من خارج صناديق الاقتراع، ويريد أن يقفل مسلسل الإصلاحات يوم السابع من أكتوبر، والعودة إلى الوراء في محاولة لإقناع الدولة بأن هذا الخيار في صالحها.