بقلم : توفيق بو عشرين
تبخر واحد من المبررات الرئيسة التي كان يسوقها عزيز أخنوش لإدخال ستة أحزاب إلى حكومة بنكيران، وبعدها حكومة العثماني، وهذا المبرر كان هو التوفر على أغلبية مريحة. أول أمس، وبمناسبة التصويت على تنصيب الحكومة، غاب 35 نائبا برلمانيا من «الأغلبية المريحة»، ولم يصوت لحكومة العثماني سوى 208 من أصل 243 نائبا في حوزة الأغلبية الحكومية، وجل هذه الغيابات سجلت في صفوف أحزاب التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري، في حين أن حكومة بنكيران حصلت، سنة 2012، على 218 صوتا لصالحها، ولم يكن في أغلبيتها سوى أربعة أحزاب، والآن مع ستة أحزاب لم تمر الحكومة إلا بأغلبية صغيرة، ولو لم يعبئ حزب المصباح كتيبته البرلمانية، لكانت الحكومة سقطت يوم الأربعاء، لأن الدستور يشترط حصولها على أغلبية الأعضاء الذين يتشكل منهم مجلس النواب، أي 198 نائبا.
ما الذي سيمنع كتلة برلمانية من 35 نائبا من حضور جلسة تصويت يتقرر فيها مصير الحكومة؟ الجواب الأول هو أن الأحزاب المشاركة في الحكومة لا سلطة لها على نوابها، وأن هؤلاء جلهم «سماسرة انتخابات»، لا تهمهم حكومة ولا برنامج ولا سياسة، يخوضون الانتخابات من أجل «الحصانة»، والوجاهة الكاذبة التي يعتقدون أن المقعد البرلماني يعطيها لصاحبه. ثانيا، «الأغلبية المريحة» كانت مجرد حيلة لتبرير البلوكاج، وتهييء الأجواء لإفشال محاولات بنكيران جمع أغلبية لتشكيل الحكومة تمهيدا لصرفه من الخدمة قبل الأوان. وحيث إن الهدف تحقق، فلا حاجة لاستنفار أعضاء أغلبية «البونج» المريحة.
وعد العثماني المغاربة بأنه سيترك بصمته في هذه الحكومة، وأنا أصدقه، فجميع من مر من هذا الكرسي، في طبعته القديمة أو طبعته الجديدة، ترك بصمته إن سلبا أو إيجابا، لكن المهم هو طبيعة هذه البصمة، ومدى إسهامها في دعم الخيار الديمقراطي أو الخيار السلطوي.
لقد سجل الدكتور أولى بصماته في حزبه، حيث هو الآن تحت وقع الصدمة، يحاول أن يحصي الخسائر، وأن يقي المصباح مخاطر الانقسام، وزرع بذور عدم الثقة بين قادته، الذين بدؤوا يعلنون خلافاتهم مع بنكيران، ويدعونه إلى التقاعد المبكر، وترك الطبيب النفسي يشتغل في هدوء، ويجرب حظه مع المخزن الذي فشل بنكيران في التطبيع معه، لأنه لا يعرف كيف يطبق بأسنانه على لسانه، فيما يعتقد تيار آخر أن أفضل جواب عن ضربة المقص التي أطاحت برأس الزعيم، هو التجديد له لولاية ثالثة، وإبعاد رئاسة الحكومة عن رئاسة الحزب، مادام الأخير لم تكن له يد في ميلاد الحكومة العثمانية، التي جرت بعيدا عن نتائج الاقتراع.
ورث العثماني عن اهتمامه المبكر بالفقه حيله، ولهذا، حاول أن يبرر أشياء لا تقبل التبرير، مثل «نفوذ التقنوقراط في حكومته»، حيث اعتبر أنه الأقل في حكومته من حيث العدد منذ حكومة التناوب، والحال أن تعويم المقارنات مع حكومات ما قبل دستور 2011 أمر لا يستقيم، ففي حكومة بنكيران الأولى كانت الداخلية والخارجية والتعليم في يد وزراء حزبيين، والآن نرى أن الداخلية والخارجية وحتى التعليم في يد تقنوقراط لا علاقة لهم بأي حزب، حيث صبغ بعضهم على عجل، مثل حصاد، الذي نزل بالمظلة على السنبلة الفارغة من أي مضمون سياسي.
من الحيل السياسية التي استعملها الفقيه العثماني في الرد على إحداث وزارة لحقوق الإنسان، لا يوجد مثلها في أي بلد متقدم أو نصف متقدم، وهو ما سمته هيومان رايتس ووتش «المهزلة».. قوله إن عمل المندوبية الخاصة بحقوق الإنسان أظهر محدوديته في التنسيق في مجال حقوق الإنسان على المستوى الأعلى (المستوى الوزاري)، وليس فقط المستوى القطاعي. علاوة على هذا، جرى خلق وزارة لحقوق الإنسان لتتكفل بقطاع الحريات الذي فصل عن وزارة العدل.
هل يتصور عاقل أن الرميد سيحمل عصا وسيطوف على 39 وزارة، وسيطلب منها احترام حقوق الإنسان في الكوميساريات والمحاكم والسجون والمستشفيات والإدارات والمطارات والطرق والجامعات والمدارس والتلفزات والثكنات… وإذا افترضنا أن العثماني منحه مرسوما واسعا للدفاع عن حقوق الإنسان على المستوى الأعلى، ومنحه ميزانية ضخمة لبناء إدارة كبيرة بمندوبيات كثيرة، حتى تغطي جل مدن المملكة وعشرات الآلاف من الموظفين، الذين سيعدون التقارير عن حقوق الإنسان في كل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية واللغوية… فهل سيقبل وزراء الحكومة وصاية الرميد الحقوقية عليهم؟ ثم كيف أنهم لم “يضربوا له حسابا” طيلة خمس سنوات، وقد كانت بيده النيابة العامة، المختصة قانونا في تحريك الدعوى العمومية، وسيذعنون له الآن وليس عنده حتى مكتب مستقل عن رئاسة الحكومة؟ ثم عن أي قطاع للحريات يتحدث العثماني، ويزعم أنه فصل عن وزارة العدل؟ هذا قطاع لم يجرِ تفعيله في وزارة العدل، ولم تكن له حتى مديرية، ولو صغيرة، في بناية الوزارة، لهذا، احذر يا سيد العثماني من «تعمار الشوارج» على المواطنين، فأمامك خمس سنوات ستحتاج فيها إلى قدر كبير من المصداقية التي وحدها أسعفت سلفك بنكيران لإنقاذ رأسه وماء وجهه عندما عزت الإنجازات وضعف الالتزام بالأجندة الديمقراطية، فلم يكن يستعمل لغة الخشب، ولا لسان التبرير، ولا خدع الجمل الحمالة الأوجه.. كان يقول الحقيقة للناس، ويعترف بقلة حيلته إزاء التماسيح والعفاريت.