وادي الموت

وادي الموت

المغرب اليوم -

وادي الموت

توفيق بو عشرين

الذهول يستبد بالجميع، مات الحكيم تحت عجلات القطار في حادثة مفجعة.. حادثة تراجيدية مازالت التحقيقات جارية بخصوصها لمعرفة ملابساتها. مات عبد الله بها الذي كان يجلس إلى جانب بنكيران في قمرة قيادة الحكومة وعينه على المستقبل، وفكره مشغول بمصالحة الإسلاميين مع القريب والبعيد، وما أظن الشارع المغربي اليوم إلا كما قال الشاعر العربي: «فالناس كلهم لفقدك واجد في كل بيت رنة وزفير»…

 الناس من هول الصدمة لم يصدقوا أن الراحل عبد الله بها مات بهذه البساطة تحت عجلات القطار الرابط بين الرباط والدار البيضاء وهو يتفقد مكان وفاة الزايدي. إن وادي الشراط، حيث لقي الزايدي حتفه قبل شهر، تحول إلى وادي الموت الذي خطف هذا العام أفضل من في النخبة السياسية المغربية، رصانة وأخلاقا وطيبة ومودة…

 على تلك الدرب جميعا سائرون لكن السؤال: كيف نسير؟ الراحل عبد الله بها أكمل مشواره، وكان عقلاً تجسد رجلا، وأخلاقا تمشي بين الناس، ولسانا عفيفا عن كلمة السوء. كان يمثل قمة الاعتدال، وعنوان الإسلام المغربي الوسطي.

 كنا حول طاولة واحدة في جنازة الراحل الزايدي في بوزنيقة، وكان يتحدث بطلاقة وعفوية في السياسة والفكر والدين وتقاليد المغاربة وعاداتهم، ومما روى لنا قصة معبرة عن صعوبة التغيير في المجتمعات الاستبدادية، وعن الحاجة إلى التضحية من أجل إطلاق مسلسل التحول. تقول الحكاية على لسان عبد الله بها: «إن جماعة من الفئران اجتمعت يوما لدراسة محنتها مع القط الذي يداهمها كل مرة على حين غفلة، فيأكل واحدا أو اثنين، فقال أحدها: ‘‘لدي حل ناجع.. سنشتري جرسا ونعلقه في عنق القط، وكلما تحرك رن الجرس في عنقه فيصل إلينا رنينه، فيكون جرس إنذار لنا بأن القط في الطريق إلينا فنهرب إلى جحورنا’’. صفق الجميع للفكرة أو الحيلة، لكن أحد الفئران نهض وقال: ‘‘نعم الفكرة جيدة لكن من سيعلق الجرس في عنق القط؟ من سيجرؤ على ذلك؟’’. هنا ران الصمت على الجميع، وأدرك الفئران أن الأمر يحتاج إلى من يضحي بنفسه ويعلق الجرس في عنق القط».

ضحكنا من الحكاية، وأولها كل واحد من حول الطاولة بطريقته… هذا هو عبد الله بها، يتحدث بالرمز لكن فكره واضح، وعقله منظم، والهدف أمامه ظاهر. كان يقول إن الديمقراطية بلا أخلاق آلة صماء، وإن الدين بلا ديمقراطية استبداد، وإن التغيير عملية كيميائية وليست ميكانيكية، وإن الزمن ضروري لنضج التغيير، كما هو ضروري لنضج الثمار في الأشجار.. كان عبد الله بها هو صمام الأمان في الحزب، ولهذا لم يكن بنكيران يقطع برأي، في الكبيرة والصغيرة، دون الرجوع إليه ودون استشارته ودون الأخذ برأيه، حتى إنه قال مرة لضيف أجنبي زاره في مقر رئاسة الحكومة: «لا أعرف من فينا رئيس الحكومة، أنا أم السي بها»…

كان الحكيم يفهم خصومه قبل أصدقائه، ويحاول أن يستبق ردود فعلهم، وأن يمتص غضبهم، وأن يضع نفسه مكانهم، لهذا تحلى بمرونة كبيرة، وساعد بنكيران على الخروج من ورطات كثيرة وأزمات كبرى كادت تدفعه إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة.

سيكتب التاريخ سيرة الرجل والأدوار التي لعبها في صمت من وراء الستار، وفي المراحل الأصعب من حياة حزب العدالة والتنمية، وسيكتشف الكثيرون قيمة الرجل التي كانت مدفونة تحت غطاء سميك من التواضع والصمت والبعد عن الأضواء، والصوفية التي عز نظيرها اليوم وسط طبقة سياسية تنفخ ريشها وتتبجح بما لا تملك، وتملأ الفضاء ضجيجا بلا معنى وخطابات بلا قيمة… سيبقى الراحل علامة محفورة فوق رخام التاريخ السياسي الحديث، لكن كل هذا لن يعوض خسارته ولا ألم فقدانه…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وادي الموت وادي الموت



GMT 10:34 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

بجعة سوداء

GMT 10:32 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 10:31 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تنظير في الاقتصاد بلا نتائج!

GMT 10:29 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

لبنان... إلى أين؟

GMT 10:27 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط والشرع وجروح الأسدين

GMT 10:25 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عن «شاهبندر الإخوان»... يوسف ندا

GMT 10:06 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

المثقف وزرقاء اليمامة وكناري المنجم

GMT 10:04 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تطابق من سبايك لى إلى هانى أبو أسعد!!

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 18:56 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

أحمد السقا يعلّق على المنافسة بين أبطال "العتاولة 2"
المغرب اليوم - أحمد السقا يعلّق على المنافسة بين أبطال

GMT 06:44 2024 الأحد ,04 شباط / فبراير

توقعات الأبراج اليوم الأحد 04 فبراير / شباط 2024

GMT 12:48 2021 الأحد ,05 كانون الأول / ديسمبر

المنتخب المغربي يتلقي حصة تدريبية خفيفة بعد هزم الأردن

GMT 04:10 2021 الجمعة ,14 أيار / مايو

الروسي حبيب نورمحمدوف يوجه رسالة للمسلمين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib