توفيق بو عشرين
كنت أراجع مع ابنتي درس التربية الإسلامية للقسم الثالث ابتدائي، ووجدت أمامها تمرينا يقول سؤاله: «انقل ولون بالأحمر الكتب السماوية التي حُرِفت»، وتحت هذا السؤال أربع خانات مكتوب في كل واحدة منها: الزبور، التوراة، الإنجيل ثم القرآن… الدرس كان حول القرآن الكريم وعصمته من التحريف، فهل كان ضروريا أن نلقن أطفالا في عمر الثماني سنوات هذا المعنى بالمقارنة مع ديانات أخرى، وأن ندخلهم إلى مبحث معقد في تاريخ الأديان وعلم الكلام اسمه «تحريف الكتب السماوية الأخرى»… لما لونت الطفلة الصغيرة خانة الزبور والتوراة والإنجيل باعتبارها كتبا سماوية حرفت، سألتني: «ومن حرف هذه الكتب؟»، قلت لها: «هذه قصة طويلة عندما تكبرين ستعرفينها»… ثم قلت في نفسي ليس ضروريا أن تدخل وزارة التربية والتعليم إلى عقول التلاميذ الصغار هذه المفاضلات المعقدة بين الأديان والكتب السماوية في هذا العمر، يكفي أن تحدثهم عن القيم الدينية الإسلامية الكثيرة والعظيمة الموجودة في هذا الدين (العدل، المساواة، التكافل، الحب، والرحمة، والعفو…)، وأن تترك للتلاميذ الفرصة عندما يكبرون ليقارنوا بين الأديان، وأن يبحثوا عن الكتب التي حرفت وتلك التي لم تحرف. هذا مع افتراض أن هذا المبحث اللاهوتي مازال يثير اهتمام الإنسان المعاصر، كما كان يهم الفلاسفة المتكلمين قبل قرون في الإسلام والمسيحية واليهودية.
هل نراجع المادة الدينية في المقررات الدراسية أو لا نراجعها؟ ندخل قيم التعايش والحوار والاختلاف مع الآخر، المسيحي واليهودي واللاديني، أم نترك مادة التربية الإسلامية في مدارسنا تلقن التلاميذ النسخة التقليدية من الفكر الديني؟ هل وراء مراجعة المادة الدينية في المقررات الدراسية بواعث سياسية ترمي إلى حصار تيارات الإسلام السياسي، أم إن خلفيات هذه الدعوة بيداغوجية وفكرية ترمي إلى قطع جذور التطرف من أصله، وليست وراءها اعتبارات إيديولوجية أو سياسية ضد هذا أو مع ذاك؟ هذا جدال صحي، ولا أراه إلا مفيدا للمدرسة العمومية، وللعقل المغربي الذي يجب أن يتعلم كيف يتحاور ويختلف ويتجادل حول مستقبل أجياله وحاضر شعبه وماضي أجداده… الدين اليوم في قلب جدالات كثيرة، ولا بد من الجواب بشجاعة وذكاء وعلم عن الإشكالات التي يطرحها في زمن الناس هذا.
لكن دعونا الآن نطرح سؤالا آخر إلى جانب السؤال أعلاه: هل المدرسة المغربية هي المكان الوحيد الذي يتلقى فيه التلميذ القيم الدينية؟ وهل كتاب التربية الإسلامية هو المسؤول الأول عن وجود الفكر الداعشي في مجتمعنا، وقبله الفكر السلفي الجهادي، وقبلهما الفكر الإخواني بكل طبعاته، ومعهما الفكر الوهابي السلفي؟ الجواب هو لا، والدليل أن مقرر التربية الإسلامية في المغرب، رغم كل التحفظات الموجودة عليه، متطور مائة مرة عن المواد الدينية التي تشحن عقول الكبار والصغار، والتي مصدرها القنوات الدينية الخليجية، وملايين الخطب والفتاوى والبرامج على اليوتيوب التي تحظى بمتابعات لا تصدق في بلادنا، وتنتقل عبر النيت والواتساب وآلاف التطبيقات المتوفرة بضغط بسيط على متاجر صناعة التطرف والانغلاق الذي يمول من السعودية والكويت وإيران والعراق…
لم تعد الحواضر العريقة لإنتاج الفكر الديني والفتوى المعتدلة والفهم الميسر للإسلام، مثل الأزهر، القرويين، الزيتونة، النجف، ودمشق، هي السائدة اليوم، بل صارت مراكز البترودولار في الرياض والكويت وقطر وقم… هي المسيطرة، وفي يدها مئات القنوات التلفزية وآلاف المواقع على النيت، وجيش من الدعاة المسيسين الذين لا يتوفر جلهم على أي مؤهل علمي لتصدر الحديث باسم الدين، أو توجيه البشر. هؤلاء هم الذين يشكلون الوعي الإسلامي المعاصر لدى الشباب الغاضب، وهؤلاء هم الآلات التي تنتج التطرف في مناخ الإحباط والفرقة والفقر والتهميش والحروب الداخلية والخارجية.
داعش ليست منتوجا مستوردا من الخارج.. داعش ابنة شرعية للفكر السلفي الوهابي الذي ولد وكبر في المملكة العربية السعودية، التي سكتت على تشدد هذا الفكر الديني وتطرفه مقابل زرعه قيم طاعة ولي الأمر وعدم منازعة الأمر أهله. داعش ابنة شرعية للسياسة الطائفية التي اتبعتها إيران في العراق للانتقام للشيعة من السنة، ما دفع هؤلاء إلى الاحتماء بجنون البغدادي ووحشية جيشه.. داعش ابنة شرعية لفشل المشاريع الوطنية في كل دولة من الدول العربية والمغاربية التي فشلت في التعليم والتشغيل والتنمية وحماية الاستقلال الوطني.
زيادة الطلب على الإسلام الراديكالي اليوم في منطقتنا ليست حنينا إلى التدين، وليس طمعا في المعنوي على حساب المادي، أبدا، انتعاش الإسلام الراديكالي وصفة متفجرة توجد كل مكوناتها في السوق الإيديولوجي وبالمجان، وهي تعطي اليائسين حلولا لما بعد الموت لأن الآخرين عجزوا عن إعطاء حلول للإنسان أثناء حياته وقبل موته.