توفيق بو عشرين
لنتفق، أولا، على أن رئيس الحكومة مازال يحتفظ بنسبة شعبية كبيرة رغم مرور أربع سنوات على وجوده في كرسي السلطة، ودليلي على ذلك مؤشران؛ الأول: حجم الأصوات التي ربحها بين انتخابات 2011 وانتخابات 2015 (ربح في الانتخابات البلدية أكثر من 400 ألف صوت مقارنة بالانتخابات التشريعية). عادة، الأحزاب التي تسير الحكومات في ظروف صعبة تخسر الأصوات ولا تربحها.. انظروا إلى نموذج الحزب الاشتراكي في فرنسا، حيث أدى فاتورة ثقيلة في الانتخابات الجهوية السنة الماضية نتيجة وجود فرانسوا هولاند في رئاسة الدولة، ووجود حزب الوردة الفرنسي في الحكومة. المؤشر الثاني على سلامة شعبية بنكيران، رغم كل الملاحظات التي توجه إليه، أنه مازال قادرا على صناعة الحدث واستقطاب الأضواء. مازالت خطبه وتجمعاته وقراراته تحظى باهتمام الناس، وكلامه يحظى بمتابعة أكبر عدد من المغاربة، وهو لا يقارن في هذا المجال بزعماء أحزاب الأغلبية أو المعارضة.
الآن، لنحفر بحثا عن سبب هذه الشعبية التي تسبب لبنكيران متاعب كثيرة، رغم أنه لا يوظف هذا الرصيد الشعبي كما يجب في إصلاحات عميقة، أو في مسار تحول جذري لقواعد اللعب المغربي غير المنتج لانتقال ديمقراطي حاسم ونهائي.
يبدو أن «البروفايل» الذي يستهوي المغاربة اليوم في رجال السياسة يتوزع على ثلاث ركائز؛ أولا: نظافة اليد. المغاربة تعبوا من المسؤولين الفاسدين أو شبه الفاسدين، كما تعبوا من النماذج التي كانت تخلط السياسة بالمال، والسلطة بالعائلة، والمنصب بالامتيازات، والقرب من الدولة بالريع. في هذا المجال، قدم بنكيران نموذجا بابتعاده عن البحث عن المال لشخصه أو لعائلته أو لأشخاص قريبين منه، فقد تصرف بحذر شديد إزاء هذه النقطة الحساسة، إلى درجة أنه كشف، أكثر من مرة، راتبه وحسابه البنكي من أجل بعث رسالة واضحة إلى جمهوره: «رئيس حكومتكم نظيف» كما أن حوالي ٪90 من تعييناته للمسؤولين في الإدارة جرت بعيدا عن حزبه أو المقربين منه.
نقطة القوة الثانية التي صنعت «كاريزما» بنكيران هي جرأته وشجاعته في نقد جوانب من نظام الحكم، الذي هو رئيس حكومة في ظله، وهذه سابقة من نوعها في تاريخ مؤسسة الحكومة. بنكيران فك عقدة السياسيين الذين كانوا يغلقون أفواههم بمجرد أن يصبحوا وزراء أو وزراء أولين، ويتصورون أن هناك تناقضا كبيرا بين خدمة الدولة وخدمة الشعب، بين البقاء في «صباغتهم الأولى» والتلون مع الوضع الجديد. بنكيران أظهر ليس فقط شجاعة كبيرة في انتقاد مشروع التحكم، الذي لا يتلخص فقط في حزب «البام» بل يتعداه إلى أطراف في النظام، بل إن جرأته أظهرت تسامحا كبيرا من قبل القصر نفسه، الذي سمح لرئيس الحكومة بالاستمرار على هذا النهج، وإتمام ولايته الحكومية، ليظهر أن مشكل الحديث بصراحة مع الملك ومع الدولة نابع، بالدرجة الأولى، من النخب السياسية المحافظة والتقليدية، التي كانت تضع جهازا للرقابة في عقلها بمجرد أن تدخل إلى القصر الملكي، كما فعل اليوسفي وجطو والفاسي، حتى لا نتحدث عن الوزراء الأولين الذين سبقوا هؤلاء الثلاثة. عبد الرحمان اليوسفي، بكل نزاهته وثقله النضالي وسيرته التاريخية، لم يستطع أن يتحدث بصراحة عن المشاكل التي اعترضته وهو وزير أول يقود تجربة كان معولا عليها لإنقاذ المغرب، ولم يتحدث بصراحة عن الفرق بين الحكومة والحكم، حتى جرى الاستغناء عن خدماته وسافر إلى بروكسيل ليلقي ما علق في نفسه في خطبة الوداع المتأخر، وإلى الآن مازال شيخ الاشتراكيين يتمسك بعادة الإضراب عن الكلام لأسباب لا يتفهم دواعيها الكثيرون من محبي الرجل قبل خصومه.
ثالث نقطة قوة عند بنكيران أنه رجل تواصل بامتياز مع الناخبين ومع الصحافة ومع الحزب ومع المواطنين ومع الجمعيات، ومع كل صاحب قضية أو مطلب أو رأي أو احتجاج. بيته مفتوح كل يوم للزوار، وهاتفه في متناول عدد كبير من المواطنين، ولقاءاته الجماهيرية المفتوحة مع الناس لم يقم بمثلها أو عددها أي زعيم حزب معارض طيلة الخمس سنوات الماضية، إنه يحاول أن يعوض عن خسارته في القرارات التي لا يتخذها والصلاحيات التي لا يتشبث بها عن طريق التواصل مع الناس واستقطاب عطفهم أو تفهمهم على أقل تقدير.
بنكيران آلة دعائية قوية، حيث لا يتعب من الحديث إلى الناس باللغة التي يفهمونها حول المواضيع التي تهمهم، وهو لا يهرب من أي قضية حتى وإن كلفته إحراجا مع الدوائر العليا ومع منطق الدولة وأسرارها. نعم، يسقط في تناقضات ويرتكب أخطاء، وتهرب منه فلتات لسان، لكنه مستمر على النهج ذاته، وخلفه حزب قوي ومنظم لم يفرط فيه، وأمامه رأي عام يجعله باستمرار حكما بينه وبين خصومه. إنه لا ينظر فقط إلى السلطة ورأيها في موضوع من المواضيع، بل ينظر كذلك إلى رأي الشعب، ويحاول أن يوفق بين الاثنين. مرة ينجح، ومرة يفشل، لكن جل الناس يلتمسون له العذر حتى وإن اختلفوا معه… التواصل الدائم مع الرأي العام، والقرب من الناس، والحديث المتواصل معهم ليس موهبة فقط، أو ضربة حظ، أو مزاجا شخصيا.. لا، إنه اختيار، وهو تمرين مكلف لصاحبه، والبعض يراه انتقاصا من سلطة المسؤول، والبعض الآخر يراه شعبوية، والبعض الآخر يهرب من كلفته السياسية. إذن، هذا اختيار له فاتورة وله مكاسب، وإلى الآن الأمور ناجحة مع بنكيران الذي سيترك بصمته في مؤسسة رئاسة الحكومة، سواء بقي فيها لولاية أخرى أم غادرها إلى بيته.