توفيق بو عشرين
التقويم الميلادي، الذي تعتمده جل دول العالم لحساب الأيام والشهور والأعوام، مظلل في كثير من الأحيان، وذلك لأنه يعطي الانطباع بأننا جميعا نعيش في عصر واحد، وفي زمن واحد، وفي ظل قيم إنسانية واحدة، وأن تعريف الحق والعدل والكرامة والحقوق يسري على الجميع… والحقيقة أننا لا نعيش في عالم واحد من حيث القيم والسياسات وطرق الإدارة ونمط العيش وأسلوب التفكير. نعيش فوق أرض واحدة لكن بأنماط حياة مختلفة، منا من لايزال يعيش في القرون الوسطى، ومنا من يعيش في القرن الـ18، ومنا من يعيش في القرن العشرين، ومنا من دخل إلى القرن الـ21، فيما الآخرون تائهون في قرون أخرى.
إليكم واحدة من الحوادث التي تظهر الفرق بين الأمم المتخلفة والأمم المتقدمة، ولكم أن تضعوا في الخانة الأولى ما شئتم من أسماء الدول التي تعيش خارج الزمن الديمقراطي.
يوم الاثنين الماضي كان يوما صاخبا في ألمانيا، التي تعيش منذ أسابيع على وقع معركة كبيرة حول حرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومات، والموازنة بين محاربة الإرهاب والدفاع عن قيم الحرية وحماية الخصوصية.
في أبريل الماضي رفعت وكالة المخابرات الألمانية (تسمى مكتب حماية الدستور) دعوى قضائية ضد الموقع الإخباري «نيتسبويتيك» المهتم بحرية الاتصالات وعالم النيت، والتهمة كانت هي نشر معلومات سرية عن برنامج جديد للمخابرات الألمانية يرمي إلى تشديد المراقبة على الاتصالات في الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بغرض مراقبة المتطرفين والمحتويات الجهادية التي تضر بالأمن القومي الألماني. وكالة المخابرات اعتبرت أن نشر الموقع هذه الخطة وأرقام الميزانية التي طلبتها المخابرات من الحكومة يهدد أمن وسلامة الدولة، ومن ثم يدخل تحت بند خيانة الدولة.
المدعي العام الاتحادي، هارد رانجه، تلقى الشكاية وفحصها، وقرر متابعة مدير موقع نيتسبويتيك والصحافي الذي قام بالتحقيق بتهمة خيانة الدولة. هنا قامت القيامة، ووقفت جل وسائل الإعلام في وجه قرار النائب العام، واعتبر الصحافيون، من اليمين واليسار، أن كل تراث حرية الصحافة بألمانيا في خطر، وأن المدعي العام يريد حرمان الألمان من حق الوصول إلى المعلومات التي تهم بلدهم وحريتهم.
لم يبق الخلاف بين القضاء الجالس والصحافة محصورا في وسائل الإعلام، بل نزل المتظاهرون إلى الشارع يضغطون على الحكومة وعلى وزارة العدل وعلى القاضي، ورفع المشاركون في المسيرة، الذين بلغ عددهم أكثر من ألف شخص، لافتات كتب على بعضها: “لا ديمقراطية بدون حرية للصحافة”، و“ماركوس بيكدال (مدير الموقع والصحافي الذي أنجز التحقيق) غير حياتنا”…
هنا وقع وزير العدل، المسؤول في ألمانيا عن السياسة الجنائية، في ورطة، فتحرك بسرعة، وطلب من المدعي العام إغلاق التحقيق مؤقتا، وإحالة الموضوع إلى مختص محايد لمعرفة ما إذا كان نشر تحقيق عن أسرار المخابرات يعتبر خيانة للدولة أم لا، وقال وزير العدل الألماني، هايكو ماس، في محاولة لتخفيف حدة التوتر والدفاع عن سمعة الحكومة: «لا أعتقد أن موقع نيتسبويتيك والصحافيين العاملين فيه كانوا يقصدون خيانة الوطن أو المس بأمنه القومي عندما نشروا وثائق الخطة الأمنية الجديدة لمراقبة محتويات النيت، ثم إن تشريعاتنا المتعلقة بحماية أسرار الدولة ربما تحتاج إلى مراجعة للحفاظ على تراث حرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومات في بلد ديمقراطي».
المدعي العام وجد نفسه في ورطة، فما كان منه إلا أن خرج علنا في وسائل الإعلام للدفاع عن نفسه وعن قرار متابعة الموقع الصحافي، حيث اتهم وزير العدل بممارسة ضغوط سياسية عليه لإغلاق التحقيق في النازلة، وهنا لم يتأخر رد وزير العدل الألماني، حيث اتخذ قرارا في 24 ساعة، وأقال المدعي العام المتمرد من مهامه، وعين قائما بأعماله إلى حين اختيار مدعٍ عام جديد، لأن السياسة الجنائية في ألمانيا لا يمكن أن تدار برأسين وبتوجهين، ثم إن وزير العدل وحكومته هما من سيدفع الثمن السياسي لمتابعة صحافيين بتهمة الخيانة، وهي تهمة لم تتحرك في ألمانيا منذ 50 عاما، والألمان مصابون بحساسية مفرطة إزاء تجاوز المخابرات مجال عملها، أو اعتدائها على حرية الصحافة أو خصوصيات المواطنين تحت أي مبرر، ويذكرهم كل هذا بجرائم الغيستابو في العهد النازي.
وكانت المحكمة الأوروبية العليا قضت بأن مراقبة الاتصالات، بهدف ملاحقة المتشددين المشتبه بهم، انتهاك للحق في الخصوصية، وأن مجرد الاشتباه في أن مواطنا يحمل فكرا متشددا أو متطرفا لا يبرر التجسس على اتصالاته ومكالماته ورسائله…
نحن في هذه الجريدة نشرنا تحقيقا بالوثائق حول بريمات مزوار وبنسودة كانا بمقتضاها يسحبان 100 ألف درهم كل شهر لكل واحد منهما خارج أجريهما وامتيازاتهما القانونية، فكانت النتيجة أن قامت ضجة في الدولة، وتحركت النيابة العامة والفرقة الوطنية، وبحثوا عن خيوط تربط التحقيق بمصدره، واعتمدوا اتهامات بنسودة لمهندس شاب وكفء، وجروه إلى المحاكمة ثم الإدانة بدعوى كشف السر المهني، وبعدها تحركت أيادٍ كثيرة في الخفاء للإساءة إلى هذه الجريدة ومديرها في القضاء وغيره… لهذا، من الأفضل أن نعتمد في المغرب التقويم الهجري ونترك الميلادي لأصحابه، على الأقل 1436 ليست هي 2015.