توفيق بو عشرين
الدولة التي نعول عليها لكي تدافع عنا في الخارج، وأن تترافع جيدا في ملفات جوهرية مثل الصحراء في الأمم المتحدة، والمهاجرين في الأركان الأربعة للعالم، وصادراتنا إلى أوروبا، وعن كل مصالحنا أمام المنتظم الدولي ومنظماته ومحاكمه… هذه الدولة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها أمام المحاكم المغربية، حيث تخسر ثلثي القضايا التي يرفعها المواطنون ضدها، وتكلف خزينة الدولة، أي جيوب دافعي الضرائب، أكثر من مليار درهم كل سنة.
هل تتصورون أن يذهب مواطن إلى المحكمة دون أن يوكل محاميا كفئا للدفاع عنه؟ هل تتصورون أن مواطنا سبق له أن خسر دعوى لأنه اعتدى على جاره سيعود لارتكاب الخطأ نفسه بعد ساعة من صدور الحكم ضده؟ هل تتصورون أن مواطنا متوسط التعليم والذكاء يضع يده على مِلك الغير دون أن يكون في جيبه ما يكفي من المال لتعويض خصمه إذا حكمت المحكمة له؟ هل تتصورون أن مواطنا يمكن أن يخسر ثلثي الدعاوى التي ترفع ضده كل سنة دون أن يلجأ إما إلى تغيير المحامي أو تغيير سلوكه؟ هل تتصورون أن مواطنا ينزع ملكية أرض من صاحبها ثم يتركها خالية عشر سنوات دون استغلالها، وعندما تحكم عليه المحكمة بالتعويض لا يجد ما يدفع لخصمه؟ هل تتصورون أن مواطنا يخسر أكثر من 20 ألف قضية كل سنة أمام المحاكم لا يلجأ إلى مسطرة الصلح وتسوية المنازعات قبل وصولها إلى يد القاضي؟ هل تتخيلون أن مواطنا سيكون زبونا دائما لدى المحاكم لا يعين خبيرا قانونيا يستشيره قبل توقيع عقد، أو إبرام صفقة، أو نزع ملكية، أو تسريح موظف، أو فرض ضريبة؟ هل تتصورون أن المواطن ذاته، الذي يربح بعض الملفات أمام المحاكم كاستثناء على القاعدة، لا يعرف كيف يحصل الغرامات أو التعويضات التي يحكم بها القضاة لفائدته، فيصبح خاسرا، سواء كان الحكم لصالحه أو كان الحكم ضده؟
ستقولون إن الشخص الذي يقوم بكل هذه الحسابات الخاطئة إما مجنون أو مغفل أو قاصر يجب الحجر عليه.. إليكم المفاجأة، إدارتكم المغربية، بكل مستوياتها، تقوم بهذه الأخطاء مجتمعة منذ الاستقلال وإلى اليوم، دون أن تجد من ينبهها أو يمنعها أو يحجر عليها. هذا ليس كلاما في الهواء.. هذا هو ملخص تقرير جديد أعده المجلس الأعلى للحسابات حول منازعات الدولة، التي تصل سنويا إلى 32 ألف دعوى ترفع على الإدارة من قبل الأفراد أو الشركات، وهذا رقم لا يعكس حتى ربع الحقيقة لأن إدريس جطو نفسه قال إنه وجد أن المديريات الخمس المكلفة بحصر المنازعات القضائية لا تتوفر على معطيات دقيقة ومحينة، وإن قضاته وجدوا صعوبة في الحصول على الأرقام الحقيقية لعدد الدعاوى التي يرفعها المواطنون، أشخاصا وشركات، على مصالح الدولة، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى تحديد قيمة التعويضات التي تحكم المحاكم على الإدارة بأدائها، ومع ذلك أعطانا جطو مشكورا رقما تقريبيا، وهو أن الوزارات الكبرى المتورطة في اتخاذ قرارات غير مدروسة (التعليم، النقل والتجهيز، الداخلية، الصحة)… كلفت الدولة حوالي 4.5 ملايير درهم في الفترة الممتدة بين 2006 و2013. طبعا السيد جطو لم يحتسب في هذه الأرقام المبالغ الطائلة التي تصدر عن القضاء كل سنة ضد الجماعات المحلية والشركات العمومية والمحافظة العقارية، وغيرها من المؤسسات التي تصدر قرارات دون تمعن، ودون احتياط، ودون استشارة قانونية، ودون مراعاة لمصلحة المواطن.
الرقم سيُصبِح مهولا إذا أدخلنا فيه كل درهم تحكم به المحاكم لصالح خصوم الدولة، ولهذا يلجأ بعض المواطنين إلى الحجز على حسابات الدولة في الأبناك وعلى حسابات مؤسسات حيوية، لأن وزارة المالية تضع كل سنة سقفا لتعويض المواطنين في القانون المالي لا يتجاوز 800 مليون درهم، في حين أنها مدينة بالمليارات للأفراد والشركات.
السيد جطو اقترح على الحكومة عدة اقتراحات للخروج من هذه الورطة، ومنها إعادة النظر في تركيبة وصلاحيات وإمكانيات ودور الوكالة القضائية (محامي الحكومة)، وحث الإدارة على استشارة المختصين في القانون قبل اتخاذ القرارات الخاطئة، والعمل على نهج التصالح مع الغير قبل الدخول إلى المحاكم وأثناء ذلك…
هذه النصائح، للأسف، لا تدخل إلى عقل الإدارة، لأن هذه الأخيرة، ومنذ الاستقلال إلى الآن، وهي «سكرانة بمفعول السلطة»، وتتصور أنها يمكن أن تفعل ما تشاء لأنها تمثل الجانب الأقوى في العلاقة، وأن الموظفين الكبار الذين يتخذون القرارات الخاطئة، وحتى الكارثية، لا يتعرضون للمساءلة، ولا يدفعون من جيوبهم ثمن الأخطاء التي يرتكبونها، فلماذا سيفرضون على أنفسهم رقابة لا لزوم لها، فهم يعرفون أن القضاء يحسب للإدارة حسابات خاصة، وحتى عندما تخسر الإدارة الدعاوى فإنها لا تنفذ الأحكام، وعندما يهديها الله إلى تنفيذ الأحكام تقوم بذلك على مزاجها وفي الوقت الذي تريده.
كم كانت دراسة المجلس الأعلى للحسابات ستكون مفيدة لو أنه أعطانا الكلفة الحقيقية للقرارات الخاطئة التي تتخذها الإدارة على اقتصاد البلاد… المواطن الذي تنزع منه أرض صغيرة أو كبيرة لـ«المنفعة العامة»، ولا يعوض عنها إلا بعد مرور عشر سنوات، يكون قد خسر فرصا كثيرة لاستثمار هذه الأرض، وتكون الدولة قد خسرت القيمة المُضافة التي كان سيخلقها استغلال هذه الأرض.