خراب العمران

خراب العمران

المغرب اليوم -

خراب العمران

توفيق بو عشرين


لم ينس المغاربة فضائح «ليراك»، المؤسسة الجهوية للتجهيز والبناء، حتى بدأت فضائح العمران تطل برأسها الكبير، والذي يريد عينة من هذا الفساد فما عليه إلا أن يفتح مجلد المجلس الأعلى للحسابات الأخير ليطل على العجب العجاب، ويرى أراضي الدولة وأموالها تعطى هدايا وامتيازات لأطر هذه المؤسسة العمومية وللشركات الكبرى ولسماسرة العقار والسياسة والانتخابات…

قصة العمران وقبلها «ليراك» هي أن الدولة اختارت هدفا نبيلا هو دعم السكن الاجتماعي، وتسهيل ولوج الفقراء إلى تملك قبر الحياة، لكن الإدارة واللوبيات والفساد، وكما هي عادتهم، انقضوا على هذا الهدف النبيل، وحولوا مؤسسته إلى بقرة حلوب وإلى دجاجة تبيض ذهبا كل يوم…

في 2007، دفنت وزارة الإسكان والتعمير، في عهد الوزير الاستقلالي توفيق احجيرة، «ليراك» لأن رائحة فسادها خنقت الجميع، وصارت سمعتها في التراب، وأسس الوزير الاستقلالي شركة عمومية لها فروع في المغرب كله اسمها العمران، أعطيت أراضي وأموالا وتراخيص وامتيازات، وفوق هذا صيغة قانونية مرنة عبارة عن شركة تشتغل مثل القطاع الخاص لتتجنب بيروقراطية المساطر الإدارية، فماذا جرى؟

من 2007 إلى اليوم استفادت العمران من حوالي 60 مليار درهم في صورة أراضٍ للدولة، وميزانيات سنوية، وتراخيص استثنائية، ومداخيل ضخمة من صندوق التضامن من أجل السكن، الذي يمول من الضريبة على الإسمنت. كل هذه الإمكانات الضخمة لم تعط النتائج المرجوة، وإليكم مثالا فقط… 

في المذكرة التقديمية للقانون المالي لسنة 2004، قالت حكومة إدريس جطو آنذاك للمغاربة إن البلاد فيها حوالي 200 ألف أسرة تعيش في مدن الصفيح، وإن وزارة السكنى والتعمير، ومعها الحكومة آنذاك، تلتزم بالقضاء على دور الصفيح في ظرف ست سنوات، أي مع حلول 2010. وهكذا وضعت الحكومة إمكانات هائلة في يد «ليراك» ثم العمران من أجل تحقيق هذا الهدف، أي تفكيك ألغام أحزمة الصفيح التي تطوق خاصرة المدن، وتهدد بتفجير الاستقرار وتفريخ التطرف والإرهاب والهشاشة والإجرام. بعد ست سنوات سنرجع إلى المذكرة التقديمية للقانون المالي لسنة 2010 لنكتشف المفاجأة -أو قل الصدمة الكبرى- بعد أن صرفت العمران مليارات الدراهم قفز عدد الأسر التي تعيش في دور الصفيح (البراريك) من 200 ألف إلى 400 ألف، وهذه ليست أرقام المعارضة أو البنك الدولي أو الصحافة أو المجتمع المدني. هذه أرقام رسمية من وزارة المالية والسكنى والتعمير وفي عهد وزير واحد…

صرفت الدولة المليارات من أجل أن تضاعف عدد الأسر التي تسكن دور الصفيح، أما بالنسبة إلى المدن الجديدة التي تكفلت العمران ببنائها في تامسنا ولخيايطة والشرافات وتامنصورت، فإن الإنجاز بقي بعيدا عن الالتزامات والأهداف، والخطاب الوردي الذي يسوق مع كل مشروع ومع كل توقيع حتى ولو كان أمام الملك نفسه، الملك الذي بعث حديثا ملفا ثقيلا إلى القضاء عن مشاريع في تامسنا لم ينجز فيها شيء، ناهيك عن فضائح الفساد المعروضة اليوم على القضاء…

الجميع يعرف أن قنبلة «أكديم إيزيك» سنة 2010، التي انفجرت في الصحراء وأودت بحياة أكثر من 12 جنديا مغربيا، قنبلة ركبت في شركة العمران بالعيون، حيث فوض الوزير احجيرة إلى زميله في الحزب، حمدي ولد الرشيد، الرجل النافذ في الصحراء، عملية توزيع أراضي الدولة على المقربين والموالين، وهو الأمر الذي خلق فتنة كبيرة وسط الصحراويين، وأدى إلى التمرد على الدولة ببناء مخيم احتجاجي خارج العيون سرعان ما تحول إلى معسكر مسلح، وبقية القصة معروفة…

سماسرة الريع والسياسة وجدوا في العمران كعكة يسيل لها اللعاب، وهكذا حولوا الهدف النبيل للدولة إلى أكبر عملية نصب واحتيال باسم السكن الاجتماعي وباسم الفقراء والمحتاجين، وأصبحت بعض شركات العقار تضع يدها على أراضي الدولة بأثمنة بخسة بمساعدة العمران، وباسم هذه الأخيرة استولى سياسيون وأطر في الإدارة ونافذون في السلطة على أراضٍ وفيلات وإقامات، بعضها ذهب إلى القضاء، وبعضها ذهب إلى النسيان. وباسم السكن الاجتماعي، الذي توفره الدولة بثمن معقول، نمت شبكة من السماسرة تشتري منتوجات العمران على الورق وتعيد بيعها للمواطنين بأثمنة أكبر…

الخلاصة أن الدولة بصورتها الحالية تاجر فاشل وفلاح فاشل وصناعي فاشل ومقاول فاشل وبناء فاشل… الدولة لا تتوفر على إدارة عصرية ونظيفة وعقلانية وخبيرة يمكن أن تنجز بها السياسات العمومية، وحتى عندما تكتشف الاختلالات فإن تواطؤ النخب الإدارية وقوة اللوبيات يمنعان الدولة من القصاص، ما يجعلها سلطة بلا أظافر ولا أسنان أمام حزب الفساد، وهذا ما يشجع آخرين على السير في الطريق نفسه المفروش بالذهب… 

على الدولة والحكومة أن تتحملا مسؤوليتهما، وأن تفكرا في طرق أخرى لدعم الفقراء مباشرة دون المرور عبر الإدارة. فرنسا تدعم فقراءها في مجال السكن بـ30 مليار دولار سنويا (ميزانية المغرب تقريبا)، حيث يوزع المال على الفئات الأكثر هشاشة دون أن تتورط الدولة في اقتناء الأرض والحديد والإسمنت وباقي مواد البناء، لأن هذا ليس شغل الدولة والإدارة. الدولة يجب أن تركز على حفظ الأمن وحماية الحدود وجمع الضرائب ووضع السياسات العمومية، وترك الخواص يقومون بمهامهم تحت رقابة القانون وحكم القضاء، غير هذا فإننا نجعل من المال العام مالا سائبا، وأنتم تعرفون ماذا يعلم «المال السايب»…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خراب العمران خراب العمران



GMT 10:34 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

بجعة سوداء

GMT 10:32 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 10:31 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تنظير في الاقتصاد بلا نتائج!

GMT 10:29 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

لبنان... إلى أين؟

GMT 10:27 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط والشرع وجروح الأسدين

GMT 10:25 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عن «شاهبندر الإخوان»... يوسف ندا

GMT 10:06 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

المثقف وزرقاء اليمامة وكناري المنجم

GMT 10:04 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تطابق من سبايك لى إلى هانى أبو أسعد!!

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

عمان - المغرب اليوم

GMT 15:56 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024
المغرب اليوم - الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024

GMT 17:41 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 08:33 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحوت الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 18:27 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميداليتان للجزائر في الدورة المفتوحة للجيدو في دكار

GMT 17:40 2019 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

نجم ليفربول يشعل مواقع التواصل بمبادرة "غريزية" غير مسبوقة

GMT 14:14 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

متزوجة تعتدي على فتاة في مراكش بسبب سائح خليجي

GMT 10:41 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

عروض فرقة الفلامنكو الأندلسية على مسرح دونيم الفرنسي

GMT 16:22 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

جدول أعمال مجلس الحكومة المغربية في 25 كانون الثاني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib